ما لا تعرفه عن الدعم المصري لفلسطين
بكلمات بسيطة يعبّر الرئيس السيسى فى مؤتمره الصحفى مع المستشار الألمانى أمس عن الموقف المصرى مما يجرى من عدوان إجرامى فى غزة.. الرئيس يرفض تماماً خطة التهجير الخبيثة، التى تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما ترفضه مصر أيضاً.. الرئيس يستند ليس فقط إلى ثوابت الأمن المصرى، التى تدرك جيداً أبعاد ما يجرى، لكنه أيضاً، كما رأينا واستمعنا، يصف ما جرى ضد مستشفى المعمدانى التوصيف الصحيح والحقيقى ويصفه بـ«القصف»، وهو يضع النقاط فوق الحروف ضد محاولة تزييف الحقيقة وتصوير الأمر على أنه تفجير من الداخل أو صاروخ فلسطينى خاطئ فى كذب إسرائيلى مكشوف ومفضوح! وهو ما يروّجون له فى الغرب، ولذلك يصفون جريمة المستشفى بالتفجير، وليس بالقصف! لوضع السلام مع إسرائيل على المحك..! ربما يفهم الغرب الموقف المصرى كما نتمنى، لكن كيف كان الموقف المصرى من القضية الفلسطينية دائماً، وتحديداً طوال العشر سنوات الماضية؟! نقول: كل خبراء ورجال السياسة فى العالم الحاليين والسابقين يعرفون أن ما يُعلن للرأى العام من أخبار يقل عن واحد على عشرة مما يحدث فعلياً بالكواليس، ومن أجل ذلك تكون أهمية المذكرات وكتب السير الذاتية، ويبقى ما يحدث فى السر سراً حتى تنشر تلك المذكرات وتجد طريقها للناس فى كل مكان..
هنا فى مصر منذ سنوات، أو تحديداً منذ ٢٠١٤، فإن ما يُعلن للمصريين وغيرهم هو ما يجرى فى السر، طالما مسموح بنشره وإذاعته دون تأثير على الأمن القومى، وتبقى الأسرار كما هى ليس لازدواجية فى السياسات وإنما للاعتبارات السابقة، أو لعدم الإساءة إلى دول أخرى أو ساسة آخرين أو بناء على طلبهم. فى مصر، تصدّرت القضية الفلسطينية جدول أعمال القيادة المصرية منذ العام المذكور.. وتزامن ذلك مع اهتمام بالبعد العربى فى السياسة الخارجية المصرية ودعوة الرئيس إلى تأسيس قوة عربية مشتركة وجيش عربى مشترك.. وتطوير كبير للعلاقات مع الأشقاء العرب فى كل مكان حتى تضاعفت أرقام التبادل التجارى والاستثمار العربى فى مصر وشاهدنا مسارات للتعاون.. مع الخليج ومع العراق والأردن ومع السودان قبل الأزمة وهكذا. وعودة إلى القضية الفلسطينية التى لم تمر مناسبة ليخاطب فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى العالم إلا وتناول مأساة فلسطين وأهلها، حدث ذلك فى كل زيارات الرئيس إلى الأمم المتحدة، التى أصر على زيارتها بنفسه دون تفويض لرئيس الوزراء أو وزير الخارجية، واستمر الحال سنوياً كذلك حتى أزمة كورونا، وتواصل العالم بعدها من خلال التواصل المرئى عن بُعد!
فى كل المرات بهذه الاجتماعات، بدأ الرئيس خطاباته بفلسطين، ثم يكون الترتيب فى تناول الأزمات المشتعلة بالدول العربية الشقيقة، داعياً العالم إلى التدخّل وبحث سُبل إطفائها ووقفها وحلها إلى تناول أزمة السد الإثيوبى، وهذا ما كان يحدث فى زيارات الرئيس إلى الدول الأخرى، وليس فقط زيارته إلى الأمم المتحدة وأيضاً مع ضيوف مصر من ملوك ورؤساء ورؤساء حكومات ومبعوثين من منظمات دولية، أو حتى سفراء الدول الأخرى، وبخلاف ذلك لعبت مصر دوراً كبيراً فى تحول بعض الجماعات من الحالة الأيديولوجية الضيقة إلى حركات تحرّر وطنى، وبعدها جرى كل الجهد المبذول لوحدة الفصائل الفلسطينية من أجل موقف موحّد يعبّر التعبير الصحيح عن الشعب الفلسطينى وقضيته، وهو الجهد الذى كانت دائماً تتداخل عليه أطراف إقليمية ودولية ويدفع الثمن الشعب الفلسطينى المسكين والجريح، ومع ذلك لم يتسرّب الصبر المصرى قط، وواصلت مصر سياسياً ودبلوماسياً كامل جهودها حتى قبل العدوان الأخير بأسابيع فى العلمين لأربعة عشر فصيلاً فلسطينياً!
وفى عدوان العام الماضى تقدّمت مصر، ورغم ظروفها، بعرض إعادة تعمير غزة، لا تعبأ بشىء ولا تهتم بغض الأطراف الأخرى وخلال شهرين رفع المهندسون المصريون أكثر من خمسة وثمانين متراً مكعباً من الركام، لتبدأ أعمال إعادة الإعمار، التى انتهت قبل العدوان إلى ثلاثة مدن هى دار مصر ١ و٢ و٣ فى بلدات الشجاعية وجباليا وبيت لاهيا لإعادة من تهدّمت بيوتهم إلى وحدات سكنية والتلاميذ إلى مدارسهم وبعدها طورت مصر كورنيش غزة الممتد لأكثر من ثلاثة كيلومترات ونصف، وبعرض يزيد على أربعين متراً، وسماه الغزاويون تقديراً منهم «كورنيش مصر»، ثم واصلت مصر أعمالها داخل مدينة غزة بإعادة تخطيط المرور بتقاطعات جديدة وجسور علوية حتى انتهى بالفعل التكدس المرورى! وطوال الأشهر السابقة للعدوان الحالى ومصر تحذّر من البطش الإسرائيلى اليومى بسكان الضفة الغربية والاقتحامات المتكرّرة للمسجد الأقصى والمقدّسات المسيحية، وكذلك أدانت العدوان على الصحفيين، وظهر ذلك فى أزمة استشهاد شيرين أبوعاقلة، وأدانت مصادرة الممتلكات وحرق الزرع والتهجير القصرى وتنبّأت بأن استمرار الحال هكذا سيفجر الأوضاع فى الأرض المحتلة، وهو ما حدث فعلاً!
واليوم تقدّم مصر خطاباً رشيداً ذكياً، فهى لا تتحدث عن حل الدولتين حالياً إلا كحل نهائى، لكنها تبدأ بالأولويات، وهى بالفعل تبدأ بوقف إطلاق النار وإنقاذ المدنيين وتقديم وإدخال المساعدات وصولاً إلى الدعوة لمؤتمر إقليمى ودولى. المساعدات جهزتها وأرسلتها مصر إلى العريش، لكن يبقى الأهم من مساعدات الأغذية هو حشود المصريين للتبرّع بالدم، وكلها لشباب أعمارهم تحت العشرين.. فى دلالة مهمة تشى بالوعى بالقضية وبحال شباب مصر الرائع ليعود الدم المصرى والفلسطينى يختلط من جديد.. أشقاء.. همومنا واحدة.. وعدونا واحد.. صامدون مرابطون فى أرضهم لن يتركوها أبداً.. ومعهم مصر لن تتركهم أبداً!