القناة الوثائقية.. في مواجهة طمس الهوية وتزييف التاريخ

لا شكّ أن الماضى والحاضر جزء أصيل من المستقبل ومن هنا تكمن أهمية التوثيق والتأريخ فقد أثبتت التجربة أنه لا مستقبل جيداً دون تأريخ وتوثيق غير مغلوط وخالٍ من الهوى فى رصد الماضى.

وبشكل شخصى حلمت كثيراً أن يكون لمصر قناة وثائقية فى ظل وجود قنوات لدول وجهات أخرى تؤرخ وتوثق وفق أهوائها وما يدعم مواقفها ومواقف حلفائها بغض النظر عن تزييفها للتاريخ وما يتبعه من تأثير على ضحاياها.

كانت الحالة المصرية تتطلب بشكل ملح أن يكون لديها قناة وثائقية، فجميعنا يرى أنه لا يكاد يمر عام دون محاولات تزييف للتاريخ المصرى وطمس للهوية وتغيير للحقائق وتضليل للرأى العام بأفكار براقة ظاهرياً وينفق عليها ميزانيات ضخمة من تحت الستار لتحقيق الهدف المطلوب، فمصر دولة مستهدفة على كافة الأصعدة وهذا يظهر جلياً أمام الجميع.

ومنذ انطلاق القناة الوثائقية التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية فى فبراير الماضى وأنا أتابعها بشكل دورى، إذ استطاعت فى شهور قليلة اقتحام هذا المجال بقوة وأصبحت رقماً فى معادلة التاريخ والتراث فى المنطقة وسط قنوات وشركات مر على تأسيسها سنوات عديدة ورغم كُلفة إنتاج أعمالها الوثائقية، إلا أن القناة المصرية استطاعت منافستها من خلال منتج مهنى وراقٍ واحترافى حاز ثقة المشاهد المصرى والعربى.

المهنية والاحترافية التى تميزت بها القناة الوثائقية، تقوم على عرض القصة كاملة من كافة الزوايا دون تحيز لمواقف مسبقة، وهذا ما لمسته فى القناة المصرية خلال شهور من المتابعة الدقيقة، وليس دس السم فى العسل كما يحدث فى قنوات ومنصات أخرى؛ فعلى مدار شهور استطاعت «الوثائقية» اقتحام قضايا مهمة فى مجالات سياسية واجتماعية وفنية واقتصادية وأفلام عن الطبيعة وأعمال عن مناطق وأشخاص بارزين، والأهم هو إبراز الهوية المصرية والدفاع عنها فى زمن التغريب الثقافى، عبر التعرض لمجموعة من الشخصيات المصرية الأصيلة التى صنعت التاريخ المصرى الحديث، وهو دور لم يكن له أن يتم إلا من خلال فريق عمل مصرى خالص، بداية من الفكرة الرئيسية وكتابة السيناريو واختيار شخصيات العمل الوثائقى.

وكان آخر ما شاهدته من هذا القبيل على القناة الوثائقية، الجزء الأول من الفيلم الوثائقى «هيكل.. سيرة الأستاذ» عن الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل أسطورة الصحافة المصرية والعربية، وهى سلسلة من ثلاثة أجزاء تعرض تباعاً وفق البرومو الدعائى للفيلم؛ الذى تم تصوير أجزائه فى أربع عواصم هى القاهرة ولندن وعمان وباريس، واستمر العمل قرابة العام وفى ذلك إشارة لدقة واحترافية العمل والحرص على انتقاء الضيوف رغم كلفة الإنتاج؛ وهو أمر يستحق، إذ يمثل هيكل جزءاً مهماً من التاريخ، حيث عاصر فترات مهمة ودقيقة فى عمر الوطن، وكان أحد المشاركين فى صناعة القرار فى هذه التوقيتات ولذا كان من المهم والضرورى توثيق وتأريخ مسيرته من الميلاد وحتى الرحيل وفق الروايات الحقيقية وبشكل مهنى.

ومن هذا النوع أيضاً، التوثيق لفرقة رضا للفنان محمود رضا، وكيف لعب دوراً مهماً فى صناعة فلكلور شعبى أصبح فخراً للأجيال وأحد أبرز أدوات القوى الناعمة المصرية، وأيضاً تناول سيرة الكاتب الكبير والسيناريست المبدع أسامة أنور عكاشة وعرض تفاصيل رحلته من الميلاد حتى الرحيل، دعماً واهتماماً بالقوى الناعمة المصرية وهى عامل من عوامل الحفاظ على الهوية. كما لم تغب عن خارطة القناة الشخصيات والأحداث التاريخية فى الفترات الزمنية الأبعد، ومنها الفيلم التاريخى «شامبليون» الذى استعرض اكتشاف الأخير للحضارة المصرية، وصولاً إلى عمق التاريخ من خلال العمل الأهم فى رأيى وهو «كليوباترا» الذى واجه محاولات التزييف، فلم يكن مقبولاً أن يتحدث الآخرون عن تراثنا بشكل مغلوط دون الرد من خلال عمل مهنى غير موجه.

أيضاً لم يقتصر إنتاج أعمال الوثائقية على المجتمع المحلى، إذ تجاوزت الحدود لتتعرض للدور المصرى خارجياً عبر عدد من الملفات الإقليمية المهمة، فقد تابعت سلسلة حلقات برنامج «عن قرب» عن (الثورة اليمنية، ومن المستشفى العسكرى الميدانى المصرى فى لبنان ومن داخل الكتيبة المصرية داخل أفريقيا الوسطى) وهنا توثيق وتأريخ مهم للدور المصرى فى الوقوف بجانب الأشقاء العرب والأفارقة.

ليس ذلك فقط، وإنما قدمت القناة سلسلة وثائقيات عن حرب أكتوبر عُرضت موخراً وما زالت تُعرض أعمال أخرى، ومنذ شهور عرضت القناة وثائقياً بعنوان «30 يونيو.. ثورة إنقاذ مصر» الذى عرض شهادات ومشاهد حية على مدار 50 دقيقة توضح جرائم التنظيم الإرهابى ومحاولاته إسقاط مصر فى يونيو 2013 بجانب سلسلة التقارير الدورية (حتى لا تكون آفة حارتنا النسيان) وهدفها التذكير بنقاط مهمة فى الماضى؛ وكان الانفراد الأهم والأكبر فى رأيى الحوار مع أمير حدود داعش رشيد المصرى عقب سقوطه فى قبضة السلطات المصرية.

تدشين القناة الوثائقية واقتحامها كل هذه المساحات فى شهور قليلة أضاف على عاتقها مسئولية كبيرة وهى الحفاظ على الهوية وإحياء التراث المصرى بجانب التأريخ للفترات السابقة من خلال إصدار وثائق تاريخية لمواجهة محاولات الطمس والتزييف، وهو دور لم يكن ليحدث إلا من خلال تجربة مصرية خالصة ممثلة فى.. القناة الوثائقية.