أبانا طه حسين.. «مَن نحن؟»

عصام الزيات

عصام الزيات

كاتب صحفي

فى كتابه العظيم «مستقبل الثقافة فى مصر»، أشار أبونا طه حسين إلى الداء والدواء فى هذا الوطن، لكنه تركنا وسط بحور عاتية الأمواج، بقارب فى حاجة إلى شراع، قال «مؤمن بأن مصر الجديدة لن تُبتكر ابتكاراً، ولن تُخترع اختراعاً، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة، وبأن مستقبل الثقافة فى مصر لن يكون إلا امتداداً صالحاً راقياً ممتازاً لحاضرها المتواضع المتهالك الضعيف».

كان السؤال عن مستقبل مصر هو الشاغل الأساسى لطه حسين، وهو سؤال شغل كل أبنائها المخلصين لسنوات، لكن من بينهم جميعاً اختار هو أن يمسك خيط المستقبل من الماضى، ويناقش الفكرة الأكثر إيلاماً «لماذا تخلفنا نحن وتقدم الغرب؟».

ظل هذا السؤال نقطة البداية عند أى توجه نحو النهضة، سأله محمد على عندما قرر أن يبنى مجده الشخصى بإنشاء إمبراطورية حديثة، وسأله طه حسين عندما تعرض لصدامه الثقافى الأول مع النهضة الأوروبية فى مدينة النور باريس، لذلك انتقل مباشرة إلى سؤال الهوية الشهير «مَن نحن؟».

كانت إجابته هى الأكثر صراحة بين كل من انشغلوا بسؤال الهوية، يقول «فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصرى نقرّه فيها، فهى أسرة الشعوب التى عاشت حول بحر الروم (المتوسط)، وقد كان العقل المصرى أكبر العقول التى نشأت فى هذه الرقعة من الأرض سناً، وأبلغها أثراً»، وهى إجابة يبدو صادماً أن تأتى من رجل «أزهرى المنبت» ودارس للشعر العربى.

«العقل المصرى القديم لم يتأثر بالشرق الأقصى، ولا بالشرق البعيد، قليلاً ولا كثيراً، وإنما نشأ مصرياً»، هكذا قالها بكل قوة، العقل المصرى نشأ مصرياً، لا شرقياً ولا غربياً، وهى فكرة لم يبنِها على أسس عاطفية أو نظرية، لكن أسس لها فكرياً، بعدما دارت داخله لسنوات صراعات بين النشأة الأزهرية شرقية الطابع، والمناهج العلمية الغربية، وفى مقدمتها أفكار ديكارت.

لم يكن كافياً أن يقول طه حسين إن العقل المصرى لا شرقى ولا غربى، لكن كان عليه أن يفكك طبقات متراكمة من الجهل وعدم الثقة فى الذات، شكلتها قرون من الظلام والاستعمار، فوجد نفسه طرفاً فى العديد من المعارك، بدءاً من أزمة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، وصولاً إلى أزماته المتكررة والمباشرة مع الأزهر وشيوخه، خاصة مع صدور كتابه «فى الشعر الجاهلى».

ظلت محاولات طه حسين لتفكيك طبقات الجهل المتراكمة فى عقولنا تجرح أصابعه حتى بعد وفاته، كما جرحت أصابع كل تلاميذه، ووصلت إلى حد قتلهم وتشويههم ونفيهم، لكن يبدو أن المعركة ستظل مفروضة لسنوات طويلة، حتى تصل رسالة «مَن نحن؟» إلى المصريين، وتنتهى معركة استعادة الثقة فى الذات، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة أكثر أهمية، هى إعادة بناء العقل.

أبانا طه حسين، لروحك السلام، ترقد الآن فى عقولنا، تاركاً أجسادنا تصارع من أجل البقاء فى عالم مظلم، لا تضاء فيه شمعة إلا من أجل الجهل، ولا توقد فيه نار إلا من أجل الحرب.

طبت حياً وميتاً، بما زرعت فينا من أمل وحلم، وتركتنا نحصد من نورك شكاً يهدينا إلى المستقبل، وحلماً يثبتنا على الطريق.

«هل يموت الذى كان يحيا، كأن الحياة أبد؟!»، كما قال أمل دنقل، أنت عشت ومات كارهوك.. ربما زاد عددهم، وحملوا السلاح، وقاتلوا النور فى كتبك، لكنهم لم يستطيعوا الحياة كما عشت أنت.

اليوم، مع اقتراب الذكرى الـ50 لرحيلك عن عالمنا، نتذكر معاركك عند بزوغ فجر التنوير فى مصر، فلا نملك إلا شكرك، حتى لو كانت أحلامنا «قليلة الحيلة» أمام أحلام رجل واحد مثلك، دخل عالماً مظلماً، وخرج بعد أن أناره.

أبانا طه حسين، جاء بعدك الكثيرون، تلامذة ومريدون ومحبون، لكن أحداً منهم لم يصمد مثلما صمدت.. قُتل فرج فودة بسيف الكلمة، وبعد سنوات لحق به أبناؤك نجيب محفوظ ونصر حامد أبوزيد، ولم يبقَ فى عالمنا سوى كلمات، كلماتك وكلماتهم.

أبانا طه حسين، سلام على روحك، سلام على حلمك، سلام على قلمك، سلام على عقلك.