المصرى لا يُلدغ من تجار الدين والحرية مرتين
كان الميدان يمد الغضب الكامن فى صدرى، يدفع العاطفة لتسيطر على مقاليد أمور المنطق، وكلما استوقفها عقلى تُسكته بمبرر خلوّ الميدان من تجار الدين، فهم كعادتهم يجلسون أمام أبواب الأنظمة يحرسون حلفاءهم بكل ما أوتوا من زيف وأباطيل.
حذرنى بعض الحكماء من نوايا «الغدارين»، لكنى كابرت، فأخذتنى العزة بالإثم، وتمترست خلف بيت عنكبوت.
صمد ظنى أياماً قليلة، حتى توغل أنصارهم رويداً رويداً، وباتفاق مع بعض «تجار الحرية» أصبح لهم بوابة يحرسونها، ثم بوابتان، ثم ثلاثة.
ولما تمكنوا من الميدان أصبحت غريباً فى جنتى التى رسمتها فى مخيلتى، فتلاشت ثقتى فى عاطفتى، حتى خجلت من النظر فى المرآة، وأنا أجلس وسط قلة من سذج ظنوا أن الخراف ما عادوا ينصاعون لأوامر كبير كباشهم.
ما بين الغفلة والانتباه حاول صديقى «الطيب» أن يثنينى عن الذهاب للميدان، لكنى أقنعته بأن يأتى ويرى كم غيَّر الميدان مصر فأصبحت تتسع للجميع، يا الله كم كنت أحمق؟
أتى الرجل، وليته ما فعل، فقد تلقفته لجان «تجار الدين» على البوابات، وبسرعة أصبح هو وزوجته وأبناؤه وقوداً للخسة والإرهاب، يقبع ابنه الآن فى السجن بتهمة حرق منشآت، دفعوه لتنفيذها بعد أن أقنعوه بأنه بطل ومجاهد.
دارت أيام سوداء، وأنا أحاول إقناع زوجتى وأبنائى وعائلتى بأننا سنحيا آمنين، كيف هذا وفى بيتى تجمعت أربع أسر مذعورة؟! كنا نصحوا مفزوعين على صوت طلقات من بلطجى هنا أو مرتعب هناك، كيف هذا والخوف صاحبنى على الطرقات، وبين الأزقة؟!
ومن شاب زامل ابنى الصغير فى تدريباته الرياضية، سقط جثة هامدة أمام بيتى، إلى النجاة من موت محقق على المحور، أنقذنى منه كمين جيش قبيل ميدان جهينة، بعد أن طاردنى لصان بسيارتهما.
نزلت أختبئ فى «دواسة» سيارتى التى أقودها مسرعاً، هرباً من رصاص متطاير، تبادله جنود الكمين مع اللصين المسلحين.
هذه ليست «بهية» التى خرجنا نحررها من نظام جثم على أنفاسنا 30 عاماً، هذه ليست «طيبة» التى حلمنا بأن تسبح فى بحر الحرية والديمقراطية، فأضحت ملكاً لعشوائيين سدوا الطرقات، يفتشون العابرين، يهينون المسنين، يتحرشون بالفتيات، ويسرقون ما تطوله أيديهم.
اعتصرنى الندم على ثقتى فى «ذئاب»، على مشاركتى الحلم مع «أوغاد»، على خطوات مجنونة غير محسوبة، وعلى توريط «صديق» فى مستنقع، خسر فيه وظيفته، وابتُلى بحسرة قلبه على ولده.
شعرت أن ذنبى لا غفران له، حاولت التعايش مع ما اقترفته يداى وأيد لا تقل عنى حماقة، تخوننى دموعى وأنا أدعو الله أن يعيد إلينا مصر التى تبطرنا عليها، بفسادها، وعشوائيتها، بتخلفها، وحزبها الوطنى.
دعوته أن يغفر لنا جرأتنا على الحلم، بعد أن استعنا على تحقيقه بغدارين، ولأننا لا نملك مقومات الوحدة والقيادة والحكمة.
أدركت أن الله لن يستجيب، لأنه «لا يُصلح عمل المفسدين»، كأن ما عانيناه من سنة بائسة يائسة عابسة لم يكفِ، فمضى حكم الله فينا، وأنزل بنا طامته، بحكم المارقين تجار الدين.
أعدت التفكير مرة أخرى: لا.. إنها ليست طامة، ليست طوفاناً سيعيد مصر لعصور الجاهلية، بل كانت صفعة إفاقة، صرخة تحذير، نفخة فى صور عزيمتنا، لنستعيد بالعمل والوحدة «بهية».
فى هذا التوقيت بدأ عقلى ينفرد بالقرار، فهذا وقت الحكمة لا الاندفاع، وقت التوكل لا التواكل على الدعاء فى الأسحار، وقت استعادة «طيبة» التى سيعيش فيها أبنائى آمنين، مستقرين، أقوياء، قادرين على مجابهة المشكلات والأزمات والعواصف.
جاءت «30 يونيو» لأن أغلب المصريين استعادوا رشدهم، ورفعوا من شأن الوطن، وأدركوا أن التجارة بالدين أكذب الكذب، وأن تجاره مجبولون على النفاق.
أفاقت مصر من غفلتها، لكنها لم تقم من كبوتها، وفى عز الأمل فى استعادة ماضٍ مخجل، هرباً من حاضر مفزع، إذا بهذا الشعب العجيب «اللى ما لوش حل»، يستعيد قدرته على الاختيار، ويستدعى من سيحقق له إحدى الحسنيين، إما إعادة «تجار الدين» لجحورهم وكف أذاهم عن المصريين وإما تحقيق حلم الدولة الحديثة العفية.
اختار الناس عبدالفتاح السيسى رئيساً بعد 11 شهراً من ثورتهم، بعد قرابة السنة على لحظة النشوة بإزاحة «الغدارين»، وذهبت سكرة استعادة «الهوية». لكن الاختيار لم يتبدل، وسكنت فى العقل فكرة «أخيراً وجدنا الأمين».
فى انتخابات 2014، رغم يقينى من فوز «المشير»، خشيت أن يصاب الرجل الذى وضع الناس ثقتهم فيه بالغرور الذى يثبط من عزيمة الحكام، ويجرفهم نحو الخمول والجنوح للدعة والراحة، والاكتفاء بقليل من العمل هنا، وقليل من الجهد هناك، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لكنه خيّب ما ظننت، وأحبط ما تخوفت، ففعل ما فعل وما زال، وبنى ما بنى ولا يزال، وعمّر ما عمّر ولا يزال، وتحمّل ما تحمّل ولا يزال.
الآن، وفى عز الأزمة التى تطرق كل بيت، والغلاء الذى أحرق كل جيب، أدرك جيداً، وتملأنى الثقة، أنه قادر على تنفيذ ما وعد، واستكمال ما بدأ.
ليس لأنى سابق زمانى وأوانى، وليس لأنى عرّاف أفهم فى ضرب الودع، لكنى أستعيد من تاريخ قدرة المصريين على اتخاذ قرارات حكيمة فى عز النكبة والنكسة والمحنة، فدفعوا عبدالناصر لمقاومة الهزيمة وبدء مشوار استعادة الكرامة، فكانت حرب الاستنزاف من أروع وأنبل البطولات التى لا يفوقها نبلاً وبطولة سوى حرب أكتوبر المجيدة.
الرئيس السيسى عليه مسئوليات وفى رقبته وعود، من حقه أن يحصل على فترة ثانية لإتمامها، ونحن لنا حقوق فى أن نجنى ثمار قدرتنا على التحمل، وفى عقولنا مساحة حكمة تُلزمنا بألا نتراجع فى منتصف الطريق، فثورة 30 يونيو لم تكتمل بعد، ونصف ثورة هو انتحار.
فى الوقت الذى يعيد فيه تجار الحرية الكرة، يبيعون العسل المسموم، وانتقل تجار الدين من حراسة سيدهم فى الدردنيل إلى حراسة سيدهم الجديد فى بحر الشمال، سأمنح المرشح المحتمل عبدالفتاح السيسى صوتى فى انتخابات الرئاسة المقبلة، ليس حباً فيه وليس نفاقاً له، وليس رغبة قى مطمع منه، لكن حتى لا أسقط ثانية فى نفس بئر الندم، فالمصرى لا يُلدغ من تجار الدين والحرية مرتين.