«حياتي».. دروس بتوقيع «فايزة واصف»
راحوا فين؟.. تصدّر السؤال اجتماعات تحرير البرنامج الأشهر وقتها «الحياة اليوم» كعنوان لفقرة ثابتة أسبوعية، وقودها نجوم الصف الأول فى مجالات مختلفة، ممن أفلت عنهم الأضواء أو تراجعت فرصهم فى الظهور، حظى ترشيحى باهتمام جميع الزملاء وتصفيقهم، فهى التى توارت عن الأنظار ولم تبحث عن ضوء يسلط عليها، وتركت إرثاً وهى على قيد الحياة يتحدث عنها لأجيال عدة.
كيف أصل إلى فايزة واصف؟سُبل كثيرة سرتُ فيها حتى وصلت، ليس من بينها الهواتف المحمولة ولا السوشيال ميديا بالطريقة التى تساعدنا بها الآن، حدث هذا قبل 16 عاماً، كان علىّ البحث عبر دليل التليفونات، ومطابقة نتيجة البحث بالأرقام التى حصلت عليها من زملائى بالتليفزيون المصرى وعدد من الأساتذة مُعدى البرامج الكبار ممن سبق لهم لقاؤها.
انتهى الأمر بالاتصال بها على رقم هاتفها المنزلى، لترد بترحاب يليق بدبلوماسية من فرط جماله وتهذيبه، وتوافق على استضافتى فى منزلها الكائن قرب قصر البارون، لتدرس مطلبى قبل الإجابة بتلبيته أو التحفظ عليه.
استعداد جيد جداً سبق هذه الزيارة، كنت كمن يخوض امتحاناً، سأجلس أمامها وقد تسألنى، قد تحرجنى، قد ترفض طلبى، ماذا لو رفضت كيف أقنعها، ماذا لو تحفظت على المذيعة والبرنامج؟.. كنا شباباً ينطلق نحو صناعة المجد، يسبق المحتوى أسماءنا فنتميز به.
أسئلة، أو بالأحرى مخاوف، من لقائها. تحركت إليها وثمة يقين أن إحراجاً قد أتعرّض له، ومن ثم لا بد لى من الاستعداد، سرت إليها بثقافة جيلى، ففاجأتنى بثقافة جيلها، نموذج فى كرم الضيافة وسعة الصدر وتقبُّل الأصغر سناً وخبرة.
تركتنى أتحدث دون مقاطعة، ملأت الوقت حديثاً متصلاً حتى تسرّب إلىّ الملل من نفسى، وهى على ابتسامتها لم تتغير، لم تتحفظ على شىء، لم تطلب شيئاً، لم تسأل عن شىء.. أزالت رهبتى وأثارت فضولى فى آن واحد: كيف لمن فى شهرتها وتاريخها بكل هذه البساطة والهدوء والثقة، كيف لم يُصبها الغرور، كيف تقبل أن تجلس أمام مذيعة من جيل أبنائها؟
لقد فاجأتنى بأنها تتابع البرنامج ومذيعته الجميلة لبنى عسل، تتابع كل ما يحدث فى إعلام مصر، تقرأ الصحف وتتابع الجريمة.. أدهشنى أن سيدة فى رقيها ووعيها تهتم بالجريمة.. دفعنى الفضول للسؤال، ولم تبخل هى بإجابة، كانت شديدة السخاء فى درس عملى تعلمت منها فيه قيمة العطاء حتى لو لم تجمعك بمن تعطيه علاقة أو مبرر، مبدأها: أنت تسأل لأنك تبحث، وأنا أجيب لأننى أملك الإجابة، فلماذا أمنعها عن سائل؟
قالت لى بحروف مدروسة: الجريمة هى النقطة السوداء فى مجتمعنا، كلما نظرنا إليها تعرّفنا على نقاط الضعف، وبداية علاج أى مشكلة هى التعرف عليها، يصلح مجتمعنا بالنظر إلى جرائمه وعلاج دوافعها وأسبابها.
سرت فى أسئلتى واحداً تلو الآخر، حتى وصلت معها للسؤال الذى توقفتْ برهة أمامه قبل أن تجيبه، قلت لها: لماذا لا تقدمين برنامجك المفضل «حياتى»، هل لا توجد قناة واحدة تعرف قيمة ما كنتِ تقدمينه؟.
هذه المرة لم تبتسم وهى تجيب، ردها أحفظه، ليس بنصه، قالت ما معناه: قدمت حياتى لأنها حياتى، مشكلات مجتمعى، حياة كنت شاهدة عليها، لكنها الآن هى حياتكم أنتم، مشكلاتكم أنتم، أنا مذيعة وهى مهنتى، لكن تقديم المجتمع والمشاركة فى تشريح مشكلاته ومن ثم علاجها لا بد أن يكون صاحب هذا الدور يراه كمن يجلس وسط الجمهور، لا كمن يحلل ويشخص ويرصد فحسب.
خرجت من منزلها وفى يدى كنز، حوار مكتوب، وأيام وستحل ضيفتى فى البرنامج الذى أشارك فى إعداده، التزمت معها بكل ما يجب الالتزام به، أعلم أن فجوة بين الجيلين اسمها المواعيد.
حاولت أن أحسن صورتى وجيلى فى نظر سيدة من طراز مختلف، والتزمنا على غير العادة بكل ما لم تطلبه باعتباره قواعد لا تحتاج لتأكيد، فكانت المواعيد ومدة الفقرة وحسن الاستقبال شغلى الشاغل.. خرجت بانطباع لطيف عنا، بذلنا جهداً لنقله إليها، وخرجنا نحن بشحنة إيجابية ظلت معنا لسنوات، كلما فكرنا فى طرح مشكلة اجتماعية ما حضرت كمثال حى، إذا لم تكن فى مستوى «حياتى» فليس لتقديمها من قيمة.
رحم الله السيدة فايزة واصف.. لم ألتقها فى حياتى سوى مرة، لكنها المرة.