المحافظون الجدد والفتى إلكسيس!

فى عهود قريبة كان الوزير أو المحافظ سياسياً بامتياز، لم يكن موظفاً جاء من الدهاليز الخلفية لدواوين الحكومة، أو ارتقى درجات السلم البيروقراطى درجة درجة. ليس بالضرورة أن يكون وزير الداخلية أكفأ ضابط شرطة، ولا أن يكون وزير الصحة أنبغ الأطباء وأوسعهم شهرة، ولم يكن أنبه وزير للتعليم فى تاريخنا السياسى «خوجة» تعفرت يداه بغبار الطبشور الأبيض فى مدرسة ابتدائية. يكفى أن يكون الوزير ذا رؤية سياسية وخيال خصب وليس وزيراً يغرد خارج السرب. كان مبارك يخدع الناس دائماً بأنه رئيس «منحاز للفقراء»، ومع ذلك فإن وزيره -الموظف السابق فى مكتب وزير الزراعة- والمسئول عن قوت الفقراء لم يدار سوأته وهو يتحلل من مسئوليته عن ارتفاع أسعار السلع التى يستهلكها الفقراء ويلقى بالمسئولية فى حجر «اقتصاد السوق»، الصنم الذى كان يعبده وزراء مبارك! فالأزمات الكبرى، التى تأخذ بخناقنا الآن ليست أزمات تقليدية يحلها موظفون قابعون خلف مكاتبهم، وإنما هى -بإعادة التوصيف- حروب ضروس مفتوحة على جبهات عديدة بعدد الأعداء المحليين والإقليميين والدوليين، لا ينتصر فيها البيروقراطيون الخائفون، المترددون، المرتعشون، القابضون على أذرع كراسيهم حتى لا تهرب من تحتهم، إنما الغلبة فيها للأكفاء المبدعين القادرين على «التفكير خارج الصندوق» لا تقيدهم ثقافة الخوف ولا اللوائح الموروثة من عهد الكاتب «الجالس القرفصاء»، إذا اعترضتهم صخرة لم يرتطموا بها أو يجرون أذيال الخيبة عائدين من حيث أتوا، وإنما داروا حولها فى مهارة الملاح وواصلوا الإبحار. ومصر غنية بالأخيرين لكنها عند الاختيار لا تراهم، لأن الأولين يحجبون الرؤية ويملأون «كادر» الصورة، فلا ترى فيها غير البلداء وأنصاف الموهوبين والكسالى، بينما تختفى «سندريلا» الجميلة عن أعين الأمير. ومصر فى مفترق طرق بين «أن تكون أو لا تكون»، بين أن ترتد على عقبيها خاضعة ذليلة ممزقة بين «أمراء» الإخوان وحلفائهم، أو أن تنتصر لخيارها الثورى الذى انتزعته فى 30 يونيو 2013، وتستكمل خطوتها الأخيرة فى خارطة الطريق، وتبنى دولتها المدنية الديمقراطية. وبغير سياسيين ذوى رؤية نافذة ورجال حكم موهوبين صار الخيار الأخير فى مهب الريح. ومن الخطأ أن نقول بعد ثورتين كبيرتين إن اختيارات الوزراء والمحافظين ما زالت تدور -بالضبط- فى فلك المعايير الموروثة من نظامين سابقين، بعد أن «أبدعت» الحكومة من المعايير ما ينفى عنها التقيد بالتقاليد الموروثة من النظامين السابقين. فى نظام مبارك كان اختيار المحافظين منبت الصلة -إلا فيما ندر- بالكفاءة. كان «مكافأة» نهاية خدمة لرجال دفعوا عربون ولائهم للنظام. وكان «حصصاً» مقطوعة لقطاعات أراد النظام شراء ولائها، وبالطبع لم يذهب نظام الإخوان بعيداً إلا فى ترجيح مرشحى الجماعة «والتمكين» لهم على غيرهم. لقد خلت قائمة المحافظين الجدد -التى ولدت بعد مخاض عسير- من أسماء لها تاريخ أو سبق أو رؤية، وربما كان قرار تعيينهم فى مناصبهم «السياسية» الجديدة هو أول عهدهم «بالسياسة». لا يمكن بالطبع أن نطعن فى كفاءتهم، فما نشر من سيرهم الذاتية لا يخلو من مؤشرات كفاءة قد تكون كافية لتزكية تصعيدهم إلى قمة هرم المسئولية فى هياكلهم المؤسسية التى أتوا منها وأبلوا فيها بلاءً حسناً، لكنها لا تكفى لإحداث نقلة نوعية بين أنظمة إدارية متباينة تتراوح بين إدارة عامة للطب البيطرى أو للشئون الصحية إلى إدارة شركة خاصة أو أجنبية محكومة بقواعد الربح والخسارة، قفزاً إلى إدارة الشأن العام -من دون صلاحيات تذكر- وتقدير المواءمات السياسية فى محافظة -بالنسبة لكثيرين منهم- مجهولة، مترامية الأطراف، صعبة التضاريس الاجتماعية والسياسية، تتخبط فى مشكلات متراكمة مثل قط محبوس بين جدران غرفة مظلمة بحثاً عن شعاع للأمل! إن العمر والشباب والسلامة والصحة البدنية والقدرة على العمل الميدانى المتواصل ساعات طويلة هى معايير مقبولة كمرجعية للاختيار، لكنها لا تكفى وحدها للحكم على سلامة المفاضلة والترجيح بين المرشحين، إذ ماذا يعنى العمر -صغيراً كان أو كبيراً- إن لم يكن مستودعاً لخبرة متراكمة أو معرفة مختزنة أو تجربة مكتسبة؟! وماذا يترك المحافظون والوزراء -إذا استغرقهم العمل الميدانى اليومى- لوكلاء الوزارات والمديرين العموميين ورؤساء القطاعات، ولم يتفرغوا -كما ينبغى أن يكون دورهم- للقرارات الاستراتيجية الكبرى؟! قد يكون «إلكسيس تسيبراس» رئيس الوزراء اليونانى الجديد، الشاب ذو الأربعين ربيعاً، الذى رفع راية التحدى ضد دائنى بلاده حالة موحية وملهمة، يمكن أن تساق فى معرض الدفاع عن اختيار المحافظين -الموظفين- الجدد فى مصر، لكنه حالة لا يقاس عليها، أو يقارن بها، فالشاب اليونانى الذى لامس بالكاد عامه الأربعين، خاض معترك السياسة منذ نعومة أظفاره فى حزب «سيريزا» وهو حزب نضالى شديد المراس وطد نفسه للدفاع عن الفقراء والعاطلين الذين طحنتهم السياسات الليبرالية المتوحشة للدائنين الأوروبيين وصندوق النقد الدولى! أما المحافظون -الموظفون- الشباب الجدد فأجزم أنهم لم يسمعوا بعد بالفتى «إلكسيس»، وأغلب الظن أن «سيريزا» لا يعدو أن يكون اسماً تجارياً لمعجون جديد للحلاقة! ومعظمهم -إن لم يكن جميعهم- لم يعرف طريقه إلى الأحزاب، لم يتعلم منها ولم يترب فيها، وهم -فى التحليل الأخير- ضحية التجريف السياسى للأحزاب والبيئة السياسية التى مارسها نظام حكم مستبد. بعد أن سبق السيف العذل، واحتل المحافظون الجدد مقاعدهم وصاروا فى قلب التجربة نسأل الله أن «تخيب» توقعاتنا فيهم. فليس لدينا «ترف» اسمه «التجربة والخطأ». ولا يمكن لدولة مثلنا تخوض حرباً طويلة ضد الإرهاب والفساد واستدراك التطلعات الشعبية المؤجلة أن تنتظر النتائج التى تطرحها -لأول مرة- مغامرة التجربة باختيار محافظين من الفضاء السياسى «المجهول»، ولا يمكن لدولة تفترسها الأزمات من كل جانب أن تعيد إنتاج أزماتها، بدلاً من أن تتفتح القرائح عن حلول ابتكارية تضع حداً لهذه الأزمات.