الإصلاح الإدارى أو الفشل
وزير البيئة يسعى لتغليظ عقوبة المخالفات البيئية. وزير الداخلية يسعى لتغليظ العقوبة على مخالفات المرور. وزير المالية يسعى لتغليظ عقوبة التهرب الضريبى. وزير الزراعة يسعى لتغليظ العقوبة على المعتدين على الأرض الزراعية. يواجه الوزير مشكلات عديدة فى نطاق عمل وزارته، ويشير عليه معاونوه من كبار الموظفين بأن تغليظ عقوبة المخالفات هو الحل. فلسفة تغليظ العقوبة تقوم على أن المشكلة فى الشعب وسلوكياته، وأن تغليظ العقوبة يردع الناس عن مواصلة ارتكاب المخالفات. لا شك عندى فى أن شعبنا به من العيوب الكثير، وأن أهلنا يستسهلون الاستهانة بالقانون والمصلحة العامة، لكن هذا لا يمثل سوى جانب واحد من المشكلة.
لا تغلظوا العقوبة، لكن ابحثوا عن الأسباب الحقيقية للمخالفة وحاولوا التعامل معها مباشرة. الناس ينتهكون القانون بسبب الجشع والأنانية، وينتهكونه أيضاً بسبب صعوبة التصرف بطريقة أخرى. لنيسر على الناس الالتزام بالقانون أولاً، ثم ننتقل بعد ذلك للتعامل مع البعد الأخلاقى للمشكلة. الفلاحون يبنون على الأرض الزراعية لأنهم يريدون سكناً لهم ولأبنائهم، فنحن بلد يزيد سكانه بما يقرب من مليونى نسمة -أغلبهم فى الريف- كل عام. ابحثوا عن حل لمشكلة السكن فى الريف وأنتم تهدمون البيوت المبنية على الأرض الزراعية. الظهير الصحراوى حل مناسب فى الصعيد حيث لكل قرية -تقريباً- امتداد طبيعى فى الصحراء، لكن ماذا عن أغلب قرى الدلتا المحاطة بالأرض الزراعية من كل جانب؟ تجريم البناء على الأرض الزراعية صالح للتطبيق فى الصعيد ذى الظهير الصحراوى الممتد، لكنه غير عادل وغير واقعى فى أغلب الوجه البحرى. لا يوجد مانع من أن يكون لدينا أكثر من قانون ينظم البناء على الأرض الزراعية حسب احتياجات الأقاليم والمحافظات المختلفة. كسل الذهن البيروقراطى، الذى يصر على تطبيق قانون واحد صالح لكل مكان، هو المشكلة، فمصر أكبر وأعقد من هذا العقل المتحجر.
ما يسرى على الأرض الزراعية يسرى على قضايا عديدة أخرى. الناس لا يركنون سياراتهم فى الممنوع حباً فى المخالفة، لكن بسبب النقص الشديد فى أماكن انتظار السيارات. الناس يتهربون من دفع الضرائب ليس فقط بسبب حرصهم على المال، ولكن أيضاً بسبب التبديد وعدم الكفاءة والفساد التى يرونها جهاراً نهاراً فى أداء الجهاز الحكومى الذى تذهب إليه أموال الضرائب. كثيرون من المتهربين من الضرائب يبررون ذلك بالأموال الكثيرة التى يبتزها منهم موظفون فاسدون. الباعة الجائلون الذين يحتلون الشوارع هم مواطنون طبيعيون يبحثون عن مصدر دخل بغير طريق السرقة أو التسول. توفير فرص العمل والتنظيم الرشيد لأنشطة باعة الشوارع، وليس تغليط العقوبة، هو السياسة المناسبة.
حكومتنا أيضاً فيها عيوب كثيرة، وأهمها ضعف قدرتها على فرض القانون. فسواء كانت العقوبة مغلظة أو مخففة تظل حكومتنا عاجزة عن تطبيق القانون وتوقيع العقوبة. أحد أسباب ضعف القدرة على تطبيق القانون هو أن الأجهزة الحكومية «تشغى» بموظفين كبار وصغار مستعدين للتغاضى عن تطبيق القانون وتوقيع العقوبة إذا حصلوا على مقابل لذلك، أى إذا حصلوا على رشوة مناسبة. كلما كانت العقوبة أغلظ كانت الرشوة أكبر، لهذا نجد موظفى الحكومة من أكثر المتحمسين لتغليظ العقوبة، فمع كل تغليظ للعقوبة تزيد سلطة الموظف الحكومى ويزيد نفوذه، وتزيد قدرته على ابتزاز خلق الله والفوز بقدر أكبر من أموالهم.
البيروقراطية فى مصر لا تحب المواطن الملتزم بالقانون، فمثل هذا المواطن غير قابل للابتزاز. انظر إلى العدد الهائل من المبانى المخالفة واسأل نفسك إن كان أحد فى البيروقراطية ذات السبعة ملايين موظف قد لاحظ هذه المبانى يوم كان أصحابها يحفرون الأرض تمهيداً للبناء؟ هذه ليست مبانى سرية، وطبعاً لاحظها الكثيرون لكنهم تركوها تعلو عمداً حتى يسهل ابتزاز أصحابها بعد ذلك. ألم يلاحظ أحد من هؤلاء الموظفين المحلات التجارية وهى تحتل الدور الأرضى فى شوارع مدينة نصر والمعادى وحدائق الأهرام وكل أحياء مصر غير المسموح فيها بذلك؟ الإجابة معروفة، لقد لاحظوها بدقة، وتجاهلوها عمداً، فليس المهم عندهم هو منع مخالفة القانون، ولكن المهم هو استخدام المخالفة كطريق للابتزاز والتربح على حساب الشعب والدولة والصحة والسلامة العامة والنظام العام وراحة الناس.
نوعية الحياة التى نعيشها بفعل البيروقراطية المترهلة تضاعف الشعور بوطأة الفقر. مشاعر الفقراء فى بلد نظيف ومنظم تديره بيروقراطية نزيهة تتسم بالكفاءة، غيرها فى بلد محروم من كل ذلك. الفقراء فى النوع الأول من البلاد هم أفراد غير ناجحين يعيشون فى دول ناجحة، أما فى النوع الثانى فمن السهل تحميل المشكلة ووضع العبء كله على عاتق الحكومة والحكام والدولة.
جهازنا الحكومى غير مؤهل لحل مشكلات مصر لا فى التنمية الاقتصادية ولا فى التعليم والصحة والسكن. حتى لو نجحت حكومتنا الرشيدة فى رفع مستويات النمو وخلقت مزيداً من الوظائف، فإن مظاهر الترهل وعدم الكفاءة والرشوة المنتشرة لن تمنع الناس من الشكوى والشعور بالغبن. الشعور الجمعى بالرضا عن الحكومة والنظام ينتج عما يتم إنجازه فيما هو مشترك وعام بين كل الناس، من النظافة لانتظام حركة المرور للمواصلات العامة، فيما تحسن أحوال المواطنين الاقتصادية تظل قضية فردية يراها الناس نتيجة لاجتهادهم وليس بسبب سياسات اقتصادية لا يفهمون الصلة بينها وبين مستويات معيشتهم.
رسالتى للوزراء والمحافظين الجدد أن أصلحوا الجهاز الحكومى الواقع تحت قيادتكم، وإلا ضاعت جهودكم هباء وضعنا جميعاً معها.