من فوق سفينة مجدى يعقوب!
وعكة صحية، لا تبدو حتى الآن «عابرة» وإن كنت أتمناها كذلك، ردتنى ثلاثين عاماً إلى الوراء، إلى ليلة شتوية دافئة على شاطئ «ميامى» عاصمة ولاية فلوريدا الأمريكية، وفى مطعم للأكلات البحرية ينام مسترخياً على شاطئ الأطلنطى، حيث تركت الشمس المشرقة بعضاً من ظلالها الدافئة مثل قلوب سكانها من المهاجرين العرب المنحدرين من أصول لبنانية، أولئك الذين ركبوا الخطر والبحر كأجدادهم الفينيقيين قادمين من أمريكا اللاتينية فى قوارب صغيرة مصنوعة من أعواد الغاب. فى تلك الليلة الدافئة ونحن نتبادل الضحكات والنكات ذات النكهات الشامية والمصرية داهمنى -بغير استئذان أو مقدمات- ألم مفاجئ أعيا قدرتى على كتمانه، بعدها وجدت نفسى فى سيارة طبية مجهزة تمرق شوارع ميامى كالبرق الخاطف، وتقطع المسافة إلى مستشفى المدينة فى غمضة عين! هناك سألنى طبيب الاستقبال عن ألمى، وبعد أن أصغى باهتمام شديد إلى شكواى اتجه مباشرة إلى موطن الوجع، أخذ يعطى تعليماته لمساعديه وأنا فى استسلام مطمئن للأيدى الرحيمة، استغرقت المهمة دقائق معدودات، وقبل أن أقرأ فى ابتسامة الطبيب الأمريكى بشارات التعافى، طلب منى أن أستوفى بطاقة تعارف يملأها المرضى الغرباء، بعضها عن التاريخ الطبى للعائلة، والبعض الآخر بيانات شخصية كالعمر والمهنة والبلد والحالة الاجتماعية و«الدين» والأخير كان كافياً لاستفزاز كل حوافز المقاومة فى داخلى ضد العنصرية والطائفية وثقافة العصور الوسطى، لولا أننى أمسكت وقاومت تهورى عندما كدت أقذف بطاقة التعارف فى وجه الطبيب الأمريكى، واكتفيت بسؤاله لماذا «الديانة» فى بطاقة مريض؟! هل للمرض دين؟! فى بلادنا يصر البعض على أن للدولة ديناً، رغم أن مواطنى الدولة أنفسهم يعتنقون أدياناً مختلفة يضمنها القانون والدستور، ولبعض الأحزاب دين وللعلوم دين! وفى بلاد أخرى يوظف الاسم والدين والجهة والأصل والنوع فى الأوراق الرسمية وبطاقات الهوية للتمييز بين الناس والتفرقة بينهم، وأحياناً ما يكون القتل هو الآخر على الهوية كما فى الكيانات الطائفية التى نشأت مؤخراً على أنقاض الدولة فى الشرق الأوسط، والولايات المتحدة -رغم أصولها المسيحية- دولة يُفترض أنها علمانية مفتوحة على الأديان والأجناس والقوميات والثقافات، ويُفترض أيضاً أنها ودعت تاريخها العنصرى وسلوكها التمييزى على الأقل فى الداخل، وإن كانت أمينة على إرثها الاستعمارى وسلوك رعاة البقر فى الخارج! قال الطبيب الأمريكى وقد قرأ قلقى وترددى: «هوِّن عليك، لك أن تكتب أو تمتنع!» نحن نريد أن نعرف ديانة المريض حتى إذا ما أدركه الموت، عرفنا فى أى مثوى يوارى، فى مقابر المسيحيين أم مقابر المسلمين أم مقابر اليهود. كان رده صريحاً وصادماً لكنه مقنع، يكفى أن الطبيب لم يبرر ما ظننت أنه سلوك تمييزى أو عنصرى فى مؤسسات الطب الأمريكية.
هذه الواقعة القديمة استدعتها إلى الذاكرة مشاهد مأساوية جديدة أبطالها أطباء إخوان خانوا الرسالة الإنسانية التى ائتمنوا عليها، وخلطوا الطب بالسياسة. هل رأيت أطباء الإخوان فى آخر اجتماع عقدته الجمعية العمومية لنقابة الأطباء وقد طبعوا على صدورهم «صليب رابعة المعقوف» الأصفر فى مشهد يفتت جبال الغضب ويؤجج ناره، ويكشف عن المآل المر الذى آلت إليه أوضاعنا المهنية والثقافية، وفى واقعة مخزية أخرى وخزت الضمير الإنسانى الحى داس طبيب كبير لأمراض النساء والتوليد شرف مهنته، وغلَّب مصلحة الجماعة، وحنث بيمين أبقراط الذى أقسم عليه يوم تخرجه، ولكن متى كان الإخوان يحترمون عهداً أو ذمة؟! بعد أيام من فض الاعتصامين المنكودين فى «رابعة» و«النهضة» دق هاتف الطبيب «الكبير» كان مساعده على الخط الآخر يناديه فى عجل «مريضتك جاءها المخاض»، كانت مريضته حرم ضابط فى الجيش المصرى، وكان الطبيب «يتابع» حالتها منذ شهور حملها الأولى، رد الطبيب بصلف وغلظة «خلِ زوجها يولدها!»، وترك المسكينة تواجه مصيرها، لقد خلعوا ثياب الرحمة والحياء والإنسانية وأداروا ظهورهم لتراث تاريخى من التسامح الدينى والمهنى وصاروا بشراً قُدت قلوبهم من صخر. الواقعة لا يمكن انتزاعها من سياقها التاريخى، فهى جزء من تركة موروثة منذ الثمانينات يوم كانت الجامعات فى قبضة الجماعات التكفيرية، وكانت مظاهر التمييز الدينى: الملابس واللحى ومفردات اللغة والطقوس والنصوص الدينية تغشى العيون، وتغطى نوافذ المستشفيات الجامعية وأبوابها وغرف المرضى وجدران المكاتب، وانطلق من القمقم «عفريت» لم تجد الجامعات -حتى الآن- من يصرفه!
قبل أن أشد الرحال لرحلة علاج فى أسوان قضيتها على سرير صغير فى مركز مجدى يعقوب لأمراض القلب يقع -فى اختيار مقصود وإنسانى- فى حى فقير على أطراف مدينة أسوان، كنت أطالع سيرة حياة العالم والطبيب الفرنسى ذائع الصيت «لويس باستير» صاحب أعظم فتح علمى، وهو اكتشاف الجراثيم والتعقيم واللقاحات الذى عاش ومات فى القرن التاسع عشر (1822 - 1895). كان لباستير عيادة فى أفقر أحياء العاصمة الفرنسية باريس يؤمها القرويون والفقراء. استوقفتنى وأنا أطالع سيرته كلمات دالة نُقشت على «لوحة رخامية» عُلقت على باب عيادته يقرأها الزائرون من المرضى وأتباعهم، تأملتها مرة ومرات وأدعو قرائى من الأطباء أن يتأملوها معى، كتب باستير على باب عيادته «لا أسألك عن اسمك.. لا أسألك عن بلدك.. لا أسألك عن دينك.. أسألك عن ألمك».
عندما استقر بى الحال فوق سفينة مجدى يعقوب فى أسوان وجدت كلمات «باستير» منقوشة على صدور الأطباء والممرضات، هناك لن تجد من يسألك عن دينك أو عن كيس نقودك وإنما تجد الكل يسألك عن ألمك، لا تحتاج أن تميز نفسك بهوية أو تربط نفسك بنسب أو تستجير بطائفة، لا ترفع السفينة أعلاماً أو شارات أو صلباناً معقوفة، وبين سفينة مجدى يعقوب وسفينة نوح وجوه شبه كثيرة، فهما سفينتا «إنقاذ» ونجاة، وسفينتا «تنوع» خلاق! ومن فوق سفينة مجدى يعقوب تستطيع أن ترى مصر تتكافل وتتكامل وتتعافى.