حرب الدولار
فى مقالنا المنشور فى هذه الجريدة الغراء، يوم الثلاثاء الموافق التاسع والعشرين من فبراير 2022م، وبعد أقل من أسبوع واحد على بداية الحرب الأوكرانية، وتحت عنوان «الحرب الأوكرانية ومستقبل العملات المشفرة»، تناولت تداعيات هذه الحرب على النظام المالى العالمى. وفى بيان هذه التداعيات، أشرت إلى أنه «مع تصاعد حدة الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، تتزايد الدعوات فى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين إلى إخراج روسيا من نظام سويفت العالمى للمدفوعات، وهو نظام عالمى يسمح بانتقال سلس وسريع للأموال عبر الحدود. وقد أنشئ هذا النظام بواسطة بنوك أمريكية وأوروبية، ويشرف عليه البنك الوطنى البلجيكى بالشراكة مع البنوك المركزية الكبرى فى جميع دول العالم، ولا سيما بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى وبنك إنجلترا. ويهدف نظام سويفت إلى جعل التجارة الدولية الآمنة ممكنة للدول الأعضاء، والمفترض أن يتم إبعاد هذا النظام عن الانحياز إلى أى طرف فى النزاعات. ولكن، وفى عام 2012م، تم حظر إيران من هذا النظام، كجزء من العقوبات المفروضة على برنامجها النووى. كذلك، تم التهديد بالإجراء ذاته فى مواجهة روسيا الاتحادية، رداً على قيامها بضم شبه جزيرة القرم عام 2014م، ولكن لم يتم تنفيذ هذا التهديد حينها. ورداً على التهديد بهذا الإجراء فى الأزمة الحالية، قال الرئيس الروسى إن ذلك سيكون بمثابة إعلان حرب».
وفى هذا المقال المنشور منذ أربعة عشر شهراً تقريباً، عبرت عن اعتقادى أنه «وبصرف النظر عن القواعد الحاكمة لنظام سويفت، وما إذا كان جائزاً استخدامه كجزء من العقوبات المفروضة على دولة ما، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقوم بهذا الإجراء فى مواجهة روسيا الاتحادية. والسبب الذى يدعونا لذلك هو حرص الولايات المتحدة الأمريكية على إبقاء هيمنة الدولار على النظام المالى والاقتصادى العالمى، وحتى لا تندفع روسيا وغيرها من الدول الراغبة فى تغيير المعادلات فى النظام العالمى الجديد إلى ابتكار وسائل بديلة للدولار والنظام المالى السائد حالياً بوجه عام. وفى هذا الصدد، نعتقد بأنه ليس من قبيل المصادفة البحتة أن تطرح جريدة وول ستريت جورنال الأمريكية مؤخراً سؤالاً حول مدى إمكانية أن تتحول العملة الرقمية المشفرة بيتكوين إلى عملة وطنية رسمية فى أى من دول العالم. وربما يكون ذلك هو أحد البدائل التى يمكن أن تلجأ إليها روسيا فى مواجهة أى إجراء يتخذ من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بحرمانها من نظام سويفت. يؤيد ذلك أن التهديد بحرمان روسيا من نظام سويفت سنة 2014م دفع روسيا إلى تطوير نظام نقل خاص بها عبر الحدود، وإن بقى هذا النظام غير مستخدم سوى بواسطة عدد قليل من الدول الأجنبية. كذلك، وللتحضير لمثل هذه العقوبة، أنشأت الحكومة الروسية نظام بطاقات الدفع الوطنى المعروف باسم (مير)، وذلك للتعامل مع المدفوعات عبر البطاقات. وقد توجه البنوك الروسية المدفوعات عبر دول لم تفرض عقوبات عليها، مثل الصين، والتى يوجد لديها نظام مدفوعات خاص بها».
وفى مقالنا المنشور فى بداية الحرب الأوكرانية، استطردت مؤكداً أن «موقف الدول من العملات المشفرة سوف يتحدد فى ضوء الظروف الخاصة بكل دولة. ولا شك أن الدول الخاضعة لعقوبة الحرمان من نظام سويفت سوف تجد نفسها مضطرة للاعتماد على العملات المشفرة. فعلى سبيل المثال، ومنذ أربع سنوات تقريباً، وتحديداً فى الحادى والعشرين من فبراير 2018م، ولتفادى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، أطلقت دولة فنزويلا عملة (بترو) الرقمية، مؤكدة أن هذه العملة ستكون مدعومة من احتياطيات النفط، علماً بأن فنزويلا الواقعة فى أمريكا اللاتينية تحتضن أكبر احتياطى مؤكد للنفط فى العالم. ورداً على هذا الإجراء، حذرت وزارة الخزانة الأمريكية من أن فنزويلا قد تنتهك بذلك العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ العام 2017م. وفى سبتمبر 2020م، اقترح الرئيس الفنزويلى «نيكولاس مادورو» مشروع قانون لمكافحة العقوبات سعى إلى استخدام العملة المشفرة كأداة للتهرب من العقوبات المفروضة على البلاد».
ومن ثم، وانطلاقاً من هذه الملاحظة، ارتأيت -فى مقالنا المنشور فى بداية الحرب الأوكرانية- أن «الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها لن يقدموا على حرمان روسيا الاتحادية من نظام سويفت، رغم التهديدات المتكررة فى هذا الشأن».
وهكذا، كان اعتقادى الشخصى فى بداية الحرب الأوكرانية هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تلجأ إلى تنفيذ تهديداتها بإخراج روسيا من نظام سويفت، حرصاً منها على الإبقاء على هيمنة الدولار، وحتى لا تدفع الدب الروسى إلى البحث عن بدائل للدفع بالدولار والاستغناء عن نظام السويفت. وقد اعتمدت فى هذا التحليل على حجم الاقتصاد الروسى، واعتماداً كذلك على مكانة روسيا فى النظام الدولى وصعوبة استغناء المجتمع الدولى عن التعامل معها، واعتماداً أيضاً على عضويتها فى مجموعة البريكس، والتى تضم العديد من الاقتصادات الكبرى، مثل الصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل. ومن ثم، وفى ضوء هذه المعطيات، كنت أعتقد أن المسئولين الأمريكان سوف يحسنون التصرف بما يخدم مصلحة بلادهم، ويبقى على هيمنة الدولار على المعاملات المالية الدولية.
ولكن، حدث ما لم أتوقعه، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ تهديداتها بإخراج روسيا من نظام المعاملات المالية الدولية (سويفت)، وهو قرار مبنى على حسابات استراتيجية خاطئة، إذا نظرنا إليه من وجهة النظر الأمريكية. حيث بدأ الحديث بعده فى العديد من دول العالم عن ضرورة التخلص من هيمنة الدولار على النظام المالى العالمى وعلى التجارة الدولية.
من البترو دولار إلى البترو يوان
فى مؤتمر القمة الصينية الخليجية المنعقدة فى المملكة العربية السعودية، خلال النصف الأول من شهر ديسمبر 2022م، وموجهاً حديثه لقادة دول الخليج العربية، قال الرئيس الصينى شى جين بينج إن الصين ستعمل على شراء النفط والغاز باليوان، وهى خطوة من شأنها أن تدعم هدف بكين فى ترسيخ عملتها دولياً وإضعاف قبضة الدولار الأمريكى على التجارة العالمية. وكان شى يتحدث فى المملكة العربية السعودية حيث استضاف ولى العهد الأمير محمد بن سلمان قمتين عربيتين وصفهما الزعيم الصينى بأنهما «معلم بارز» وأظهرتا الثقل الإقليمى للمملكة فى الوقت الذى تسعى فيه إلى إقامة شراكات تتجاوز العلاقات التاريخية الوثيقة مع الغرب. ولم تعلق حينها الحكومة السعودية على دعوة الرئيس الصينى، لكن بعد نحو شهر من ذلك أعلن وزير المالية السعودى أن المملكة «منفتحة على المناقشات بشأن التجارة عبر استخدام عملات بخلاف الدولار». ولا شك أن أى تحرك سعودى للتخلى عن استخدام الدولار فى تجارة النفط من شأنه أن يمثل زلزالاً سياسياً كانت الرياض قد هددت به فى السابق فى مواجهة تشريع أمريكى محتمل يعرض أعضاء منظمة البلدان المصدر للبترول (أوبك) لدعاوى قضائية لمكافحة الاحتكار.
ومن ناحية أخرى، ومنظوراً إلى الهند باعتبارها أحد الشركاء الاستراتيجيين الأبرز للاتحاد الروسى، وفى الأسبوع الأول من شهر فبراير 2023م، نشرت وسائل الإعلام العربية والأجنبية أخباراً مفادها أن شركات التكرير الهندية بدأت فى دفع ثمن معظم النفط الروسى الذى تشتريه من خلال شركات تجارة تتخذ من دبى مقراً، بالدرهم الإماراتى بدلاً من الدولار الأمريكى. إذ شعر التجار وشركات التكرير فى الهند بالقلق إزاء عدم القدرة على مواصلة تسوية المعاملات بالدولار، خاصة إذا ارتفع سعر الخام الروسى فوق سقف فرضته مجموعة الدول السبع وأستراليا فى شهر ديسمبر 2022م. وقد دفعهم ذلك للبحث عن طرق بديلة للدفع، والتى يمكن أن تساعد أيضاً روسيا فى جهودها الرامية لوقف التعامل بالدولار فى اقتصادها رداً على العقوبات الغربية.
وفى الخامس عشر من شهر مارس 2023م، أكدت صحيفة وول ستريت جورنال أن المملكة العربية السعودية تجرى مشاورات مع الصين لتسعير بعض من صادراتها النفطية باليوان، فى خطوة تعد مؤشراً على توجه أكبر مصدّر للخام فى العالم نحو آسيا، ومن شأنها أن تؤثر بلا شك على سيادة الدولار فى أسواق النفط العالمية. وذكرت الصحيفة الأمريكية أن المباحثات حول العقود المتوقع تسعيرها باليوان، بدأت منذ حوالى ست سنوات، إلا أنها شهدت نمواً بشكل خاص خلال العام الحالى، فى وقت أظهر فيه السعوديون استنكارهم للالتزامات الأمريكية بشأن الدفاع عن سلامة المملكة، فى ظل الحرب القائمة ضد الحوثيين فى اليمن. كما عبرت المملكة مراراً عن عدم قبولها لتوجه إدارة الرئيس الأمريكى، جو بايدن، نحو عقد اتفاق نووى مع إيران، عدوها اللدود، بالإضافة إلى الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، الذى صدم السعوديين. وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن الصين تشترى أكثر من 25 فى المائة من صادرات السعودية النفطية، وإن تم تسعيره باليوان، فإن تلك المبيعات ستنعش مرتبة العملة الصينية عالمياً، ومن المتوقع أن يدفع تسعير جزء صغير من صادرات المملكة البالغة حوالى 6.2 مليون برميل يومياً بأى عملة غير الدولار إلى تغيير عميق. ويبرز الدولار فى 80 فى المائة من مبيعات النفط العالمية، وكانت المملكة قد حددت الدولار للمبيعات النفطية منذ العام 1974م، فى اتفاقية بعهد إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، شملت فى المقابل ضمانات أمنية للمملكة. وكانت الصين قد أبرزت عملتها، اليوان، فى العقود النفطية عام 2018م، لكن مساعيها لم تنجح فى كبح سيادة الدولار بالأسواق العالمية. كما واجهت بكين صعوبات فى استخدام الدولار بسبب العقوبات المفروضة على إيران، بسبب نشاطاتها النووية، وروسيا، بسبب اجتياحها لأوكرانيا.
وفى الثامن والعشرين من مارس 2023م، أعلنت بورصة شنغهاى للبترول والغاز الطبيعى، أن شركتى الصين الوطنية للنفط البحرى (كنوك) وتوتال إنرجيز، أتمتا من خلالها أول تعاملات الصين فى الغاز الطبيعى المسال، التى يجرى تسويتها باليوان، وشملت نحو 65 ألف طن من الغاز الطبيعى المسال المستورد من الإمارات. ولم تعلن الإمارات على الفور، ما إذا كانت ستستمر فى تسعير جزء من صادراتها من الغاز المسال باليوان فى بورصة شنغهاى، أم أن الأمر مجرد جس نبض ردة الفعل الأمريكية تجاه هذه الخطوة، التى لم تؤكدها بعد ولم تنفها أيضاً. وغنى عن البيان أن تسعير النفط والغاز باليوان فى بورصة شنغهاى، تشكل استجابة لدعوة سبق أن وجهها الرئيس الصينى شى جين بينج، إلى دول الخليج عندما زار السعودية فى شهر ديسمبر 2022م، «للاستفادة الكاملة من بورصة شنغهاى للبترول والغاز كمنصة لتسوية تجارة النفط والغاز باليوان».
إعلان البنك المركزى الروسى توسيع قائمة عملات أسعار الصرف الرسمية
فى يوم الأربعاء الموافق الثامن عشر من شهر يناير 2023م، أعلن البنك المركزى الروسى توسيع قائمة العملات التى يحددها ضمن أسعار الصرف الرسمية مقابل الروبل؛ لتشمل الجنيه المصرى. ففى بيان منشور على موقعه الرسمى، وأوردته وكالة سبوتينيك الروسية للأنباء، قال البنك المركزى الروسى إن قائمة العملات الأجنبية التى يحدد سعرها رسميّاً مقابل الروبل تضمنت الآن 9 عملات جديدة، من بينها الجنيه المصرى والدرهم الإماراتى والبات التايلاندى والروبية الإندونيسية. وفى هذا التاريخ، سجل سعر الروبل الروسى مقابل الجنيه المصرى نحو 43 قرشاً. والعملات الأخرى التى سيتم تضمينها هى: الدونج الفيتنامى والدينار الصربى والدولار النيوزيلندى واللارى الجورجى والريال القطرى. ووفقاً لقائمة البنك المركزى الروسى، رفعت إضافة العملات الجديدة العدد الإجمالى للعملات التى يحددها البنك المركزى الروسى بأسعار يومية رسمية إلى 43.
وتعليقاً على هذا القرار، رأى البعض أن قرار البنك المركزى الروسى مهم للغاية، ويعتبر مسماراً فى نعش العملة الأمريكية، خاصة أن ضمن هذه العملات ثلاث عملات عربية هى: الدرهم الإماراتى، والريال القطرى، والجنيه المصرى.
وهذا القرار سيكون له بلا شك انعكاسات ملموسة ومميزة من زيادة حجم اعتماد العالم على الروبل الروسى؛ مما سيزيد التبادل التجارى بين روسيا والكثير من الدول ويقلل من اعتماد العالم على الدولار الأمريكى. وإضافة هذه العملات إلى البنك المركزى الروسى سيمثل انفراجة فيما يخص عمليات الاستيراد المكدسة فى الموانئ المصرية، كما ستسهم فى توفير الكثير من السلع الاستراتيجية، وفى مقدمتها القمح دون الضغط على الدولار وتقليل الحاجة إليه، وسيسهل السياحة الروسية فى مصر وغيرها من الدول العربية، ويزيد من التجارة البينية وزيادة الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة لهذه الدول، وهذا من الممكن أن يدفع قطاع الأعمال والصناع فى هذه الدول إلى تغيير خططهم المستقبلية، خاصة أن تحالف الصين وروسيا قد يؤدى إلى استيراد مدخلات الإنتاج من الصين ويدفع لها أيضاً بالروبل الروسى. وهذه الخطوة ستؤدى إلى التحرر من سيطرة وسطوة الدولار وبداية النهاية لفرض الهيمنة الدولارية على الدول العربية والعالم؛ لأنه يتيح حجم مساحة أكبر فى التعاملات التجارية العالمية، وسيقضى على مشكلات مزمنة كانت ناتجة عن ربط العملات الأخرى بالدولار فقط، ومن هذه المشكلات ارتفاع سقف الدين الخارجى، وانخفاض قيمة العملة الوطنية، وارتفاع الأسعار وزيادة التضخم، وبالتالى دخول هذه العملات إلى سلة معاملات البنك المركزى الروسى سيساعد هذه الدول فى التغلب على المشكلات الاقتصادية، وجعل الاقتصاد العالمى أكثر مرونة وقوة.
توجه منظمة الآسيان إلى تقليل الاعتماد على الدولار
فى شهر نوفمبر 2022م، ووفق موقع آسيان بريفينج، تم التوصل إلى اتفاق بشأن التجارة بالعملات الوطنية بين إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين وتايلاند.
وفى الثامن والعشرين من شهر مارس 2023م، وفى دولة إندونيسيا، اجتمع وزراء مالية ومحافظو البنوك المركزية فى آسيان، لمناقشة تقليل الاعتماد على الدولار، واليورو، والين اليابانى والجنيه الإسترلينى فى المعاملات المالية، والانتقال إلى التسويات والمبادلات التجارية بالعملات المحلية.
وغنى عن البيان أن توجه النمور الآسيوية للتعامل بالعملات المحلية فى تجارتها البينية يزيد الضغوط على الدولار بوصفه عملة تداول فى التجارة العالمية. فالآسيان، التى تضم 10 دول من الاقتصادات الناشئة، تعتبر ثالث أكبر اقتصاد فى آسيا، والخامس عالمياً بعد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا.
>> انضمام مصر إلى بنك التنمية التابع لمجموعة بريكس
لم تتوقف التطورات المتسارعة عند هذا الحد، وإنما امتدت إلى منطقتنا العربية، وتحديداً جمهورية مصر العربية. ففى الثلاثين من شهر مارس 2023م، نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 628 لسنة 2023 بشأن الموافقة على اتفاقية تأسيس بنك التنمية الجديد التابع لتجمع البريكس ووثيقة انضمام مصر إلى البنك. ويعد تجمع البريكس من أهم التجمعات الاقتصادية على مستوى العالم، والذى يضم فى عضويته كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، و«بريكس» هى اختصار للحروف الأولى باللغة الإنجليزية للدول المكونة للمنظمة، وهى: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، ويمثل التجمع نحو 30% من حجم الاقتصاد العالمى، و26% من مساحة العالم و43% من سكان العالم، وتنتج أكثر من ثلث إنتاج الحبوب فى العالم. وأنشأت الدول الأعضاء بنك التنمية الجديد برأسمال 100 مليار دولار لتمويل مشاريع البنية الأساسية والتنمية المستدامة فى الدول الأعضاء، فضلاً عن اقتصادات السوق الناشئة والدول النامية الأخرى. ووافق بنك التنمية الجديد على قبول مصر كعضو جديد، وتم الإعلان عن ذلك أثناء اجتماعات قمة قادة دول البريكس فى ديسمبر 2021م، وأُقرت مصر العضو الرابع الجديد، حيث تم قبول عضويتها ضمن التوسعة الأولـــى لنطاق انتشار البنك عالمياً، وسبقتها، منذ سبتمبر 2021، كل من بنجلاديش، والإمارات العربية المتحدة وأوروجواى.
ونعتقد بأن رأسمال البنك يمكن تحويله فى المستقبل إلى سلة عملات، بدلاً من التقويم بالدولار الأمريكى. وقد يتم إنشاء عملة موحدة بين الدول الأعضاء فى مجموعة البريكس. ففى شهر يناير 2023م، أشار وزير الخارجية الروسى إلى مناقشة دول البريكس مبادرة إنشاء عملة موحدة بين الدول الأعضاء، خلال القمة المقرر عقدها فى جنوب أفريقيا، فى شهر أغسطس المقبل. ولا شك أن إنشاء عملة جديدة لمجموعة البريكس، التى تستحوذ على نحو ربع اقتصاد العالم (نحو 23 بالمائة)، متفوقة على الاتحاد الأوروبى (نحو 22 بالمائة)، من شأنه أن يضغط أكثر على الدولار كعملة تداول واحتياط عالمى. لكن عملة موحدة للبريكس من شأنها أن تصطدم بطموح صينى ليكون اليوان عملة التداول الأولى عالمياً، خاصة وأنها ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، وتطمح أن تتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية فى العام 2030م.
>> الدعوات الأوروبية والأمريكية اللاتينية إلى تقليل الاعتماد على الدولار
لم تقتصر التطورات ذات الصلة بانحسار هيمنة الدولار على الدول المناوئة للمعسكر الغربى أو الدول المحايدة، وإنما امتد إلى المعسكر الأوروبى واللاتينى ذاته. ففى التاسع من شهر أبريل 2023م، وعقب انتهاء زيارته إلى بكين، أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أنه يجب على أوروبا أن تقلل من اعتمادها على الدولار الأمريكى خارج «الحدود الإقليمية»، وأن تتجنب الانجرار إلى مواجهة بين الصين وأمريكا بشأن تايوان. وأكد ماكرون فى حديثه مع صحيفة «بوليتيكو» واثنين من الصحفيين الفرنسيين، على نظريته المحببة حول «الحكم الذاتى الاستراتيجى» لأوروبا، التى من المفترض أن تقودها فرنسا، لتصبح أوروبا هى «القوة العظمى الثالثة»، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وأضاف ماكرون: «الخطر الكبير الذى تواجهه أوروبا هو أنها عالقة فى أزمات ليست من أزماتنا، مما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية».
وبعد أقل من أسبوع واحد على تصريحات الرئيس الفرنسى، وخلال أول زيارة خارجية منذ توليه منصبه مرة أخرى، والتى قام بها إلى جمهورية الصين الشعبية، وفى يوم الخميس الموافق الثالث عشر من أبريل 2023م، حث الرئيس البرازيلى لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، الدول النامية على التخلى عن الدولار فى التجارة الدولية لصالح عملاتها. كذلك، دعا لولا دا سيلفا مجموعة دول البريكس (البرازيل والصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا) إلى إنهاء هيمنة الدولار وتطوير عملتها البديلة لاستخدامها فى التجارة. ومتحدثاً فى بنك التنمية الجديد (الذى أنشأته دول البريكس) فى شنغهاى، خاطب رئيس البرازيل الجمهور بأسئلة: «من قرر أن عملاتنا ضعيفة وليس لها قيمة فى البلدان الأخرى؟ من قرر أن يصبح الدولار هو العملة الرئيسية بعد إلغاء معيار الذهب؟».
وهكذا، ومن خلال استعراض التطورات سالفة الذكر، يمكن القول إن تربع الدولار على عرش النظام المالى العالمى والتجارة الدولية لن يعود كما كان قبل الحرب الأوكرانية. والواقع أن هذه التطورات تأتى كنتيجة طبيعية ورد فعل طبيعى لبعض القرارات والتوجهات الاستراتيجية التى قامت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وبعبارة أخرى، يمكن أن يعزى التطور الحاصل بشأن التخلى الدولى التدريجى عن استعمال الدولار إلى بعض القرارات والسياسات الأمريكية التى لم تحسن قراءة المشهد، وتصرفت بمنطق عقود كثيرة مضت ولم تعد منسجمة مع العصر الحالى. فلا يخفى على أحد أن قرار الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون بإلغاء غطاء الذهب قد أدى إلى ضعف الثقة العالمية فى العملة الخضراء. غير أن التوصل إلى اتفاق البترو دولار قد شكل نوعاً من التوازن وتوفير الدعم المنشود أمريكياً للدولار، وذلك من خلال الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية على تسعير وبيع النفط بالدولار مقابل التزام الولايات المتحدة بحماية المنشآت النفطية السعودية والخليجية. ولكن، نكوص الولايات المتحدة الأمريكية عن الوفاء بهذا الالتزام مؤخراً، ولاسيما فى مواجهة الهجمات الحوثية، بل والتلويح بالانسحاب الأمريكى من منطقة الشرق الأوسط، قد دفع دول الخليج العربية النفطية إلى التفكير فى التخلى عن التزامها بتسعير وبيع النفط بالدولار. كذلك، وفى ظل استمرار الضغوط الأمريكية على المملكة العربية السعودية بسبب ملفى حقوق الإنسان وطلبات زيادة إنتاج النفط، لا تفتأ الحكومة السعودية تلوح من حين لآخر بورقة تسعير النفط باليوان. وهكذا، وكما كان تسعير النفط بالدولار سبباً فى إنقاذ العملة الأمريكية من الانهيار بعد فك ارتباطها بالذهب فى العام 1971م، وتراجع الطلب العالمى عليها، يمكن للمملكة العربية السعودية ودول الخليج إضعاف الدولار مجدداً بالتخلى عن تسعير النفط به، والتحول نحو اليوان أو سلة عملات مختلفة، ما سيؤثر على حجم الطلب العالمى على العملة الخضراء.
كذلك، فإن استمرار البنك الفيدرالى الأمريكى فى رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم تسبب فى هروب رؤوس الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة فى آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية لشراء السندات الأمريكية ذات العائد المرتفع، ما تسبب فى أضرار بالغة لعملات هذه البلدان واقتصاداتها، وهو ما جعلها تبحث التعامل بالعملات الوطنية فى مبادلاتها التجارية البينية. ورغم أن واشنطن من جهتها تنظر بقلق إلى ما يحدث من حولها لزعزعة هيمنة الدولار، لكنها ماضية فى رفع الفائدة للمرة التاسعة على التوالى على الأقل لكبح التضخم (أسعار المستهلك)، غير آبهة بحجم الضرر الذى يحدثه ذلك على الكثير من الاقتصادات الناشئة. وإذا كانت الحكومة الأمريكية تجد فى رفع سعر الفائدة حلاً لمشكلة التضخم التى يعانى منها الاقتصاد الأمريكى فى الوقت الحالى، فإن هذا الحل يبدو مؤقتاً وغير ناجع على المدى الطويل، ولاسيما فى ضوء تراجع الطلب العالمى على الدولار. بيان ذلك أنه مع تراجع الطلب العالمى على الدولار، ستضعف قيمته، ويرتفع التضخم، ولن يتمكن الفيدرالى الأمريكى من رفع سعر الفائدة إلى ما لا نهاية، ولن يكون بإمكانه طباعة كميات أكبر من الورقة الخضراء، وإلا فسيضعف ذلك اقتصاد البلاد ويرفع التضخم، بل قد يؤدى إلى ركود أو حتى أزمة اقتصادية مثلما حدث فى الكساد العظيم عام 1929م. فالدين الأمريكى بلغ نهاية العام 2022م مبلغاً قياسياً مقداره 31.4 تريليون دولار، أى ما يعادل 125 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى للاقتصاد الأكبر على مستوى العالم. وإذا فقدت الورقة الخضراء جاذبيتها عالمياً، ووجدت الاقتصادات الكبرى بدائل للدولار، فإن ذلك من شأنه أن يؤدى إلى بيع كثيف للسندات الأمريكية، الأمر الذى يمكن أن يصل بالحكومة الأمريكية إلى مرحلة العجز عن السداد. وهذا هو السيناريو الأسوأ الذى تخشاه الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد فك ارتباط الدولار بالذهب فى العام 1971م، إذ لم يعد للاقتصاد الأمريكى ما يعادله من قيمة صلبة. فقوة الدولار مبنية على أساس «معنوى» مرتبط بقوة البلاد العسكرية والاقتصادية ونفوذها السياسى، و«ثقة» الدول والشركات والأفراد بمتانة الاقتصاد الأمريكى يدفعهم للثقة بالدولار وجعله عملة تحوط من الأزمات. وعبر هذه القوة والنفوذ أقنعت واشنطن دول الخليج بتسعير نفطها بالدولار فى 1971م، ما عزز ثقة العالم بالعملة الأمريكية، وجعلها عملة تداول واحتياط. لكن، وفى اللحظة التى يفقد فيها العالم «الثقة» بقوة الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية ونفوذها السياسى، ويتجه إلى عملات بديلة للتبادل التجارى والاحتياط، سيفقد الدولار بريقه، ويلقى نفس مصير الجنيه الإسترلينى وعملات أخرى هيمنت على التداولات العالمية فى فترات زمنية معينة قبل أن يأفل نجمها.