أحمد عاطف يكتب: «الكردوسي».. «الشريك المخالف»
أذكر أننى اتفقت مع الأستاذ محمود الكردوسى، رحمة الله عليه، ذات يوم، منذ توطدت صداقتنا، أن ما يجمعنا من مشتركات أكثر مما يفرّقنا من خلافات فى الرأى.. تجمعنا محبة عميقة للزعيم جمال عبدالناصر، والإيمان بالقومية العربية وحتميتها، والهوس بمجانين الإبداع وأسطوات القوة الناعمة لمصر فى السينما والشِّعر والغناء والمديح والإنشاد وتلاوة القرآن.. بينما نقف على طرفى نقيض فى تقييم ما هو راهن واستشراف ما هو قادم، وضجر مكرّر بسبب دهس الشعرة الفاصلة بين وحل السياسة وبكارة المبادئ، والخلاف على رهانات متقلبة كموج البحر.
ورغم وضوح هذا الاتفاق، الذى عانيت وألححت عليه كثيراً فى أن يكون حاضراً بيننا، إلا أنه بضمير مرتاح، كان يخالفه بمزاج رائق ولامبالاة يُحسد عليها، حتى صار الالتزام من طرف واحد هو طرفى بالطبع، وعندما أهمُ بتذكيره باتفاقنا السابق، يأتينى منه الرد ساخراً: «بِله واشرب ميته.. أنا كده ومش هاتغير».
لم تكن تزعجنى المخالفة وخرق «اتفاق المبادئ»، الذى وُلد هشّاً كـ«اتفاق أوسلو»، خاصة أن حكاوى الكردوسى ونقاشاته لم تكن تخلو من هزار هزلى ساخر له علاقة بالواقع.. فالراحل الكبير عركته الحياة والصحافة والسياسة وعركها، وخاض تجارب وقطع مشاوير لم أبدأ أنا خطوة واحدة فيها ومحمل بخبرات لم أصادفها بعد.. وقدراً تقاسمنا معاً مغزى التعبير الدارج «الشريك المخالف».. كلانا شريك وكلانا مخالف.
كانت أجمل حواراتى وأنا قُرب موهبة متفجّرة فى الكتابة بحجم الكردوسى تدور حول الاعتزاز باللغة حد التقديس، وغرامه بنحت المعانى وصك المصطلحات وصياغة العناوين. أما أعذب دردشاتى معه فكانت تدور حول عظماء مدرسة التلاوة المصرية من كبار القراء، وكان بحس فنى ونقدى يُثرى ذلك الحديث بمزج رائع بين فن اللحن والنغم الموسيقى، وجمال التلاوات القرآنية.
كان يعشق صوت الشيخ محمد رفعت الندى البهى، ويتلذّذ بسماع الشيخ مصطفى إسماعيل، ويحن إلى الشجن الصعيدى العميق كلما استمع إلى الأخوين محمد ومحمود صديق المنشاوى.. وعندما يعرج بنا الحديث عن الشيخ الشعراوى كان يرى فيه مجدّداً عظيماً للغة العربية وعلومها، وأنه ظلم اللغة لحساب التفسير، أو ما كان يُعرف عن الشيخ بـ«الخواطر الإيمانية».
ولا أنسى تلك الليلة التى جلسنا فيها معاً نستمع إلى سورة يوسف بتلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل فى المسجد الأقصى.. دخّن ليلتها ما يقرب من نصف علبة سجائر فى نصف ساعة.. دوى صوت الشيخ مصطفى أرجاء حجرته الصغيرة فى الدور السابع بـ«الوطن»، وسرح كُلٌّ منا بخياله فى آفاق لا يصلها المرء إلا عندما يكون أسيراً لتلاوة عذبة لواحدة من أمتع القصص الإنسانية فى القرآن الكريم.
أجمل حالة كان يمكن أن ترى عليها هذا الحكاء العظيم عندما يحل ذكر جمال عبدالناصر فى ثنايا أى حديث معه، حتى لو كان الكلام عن «الأكل والشرب».. تلمع عيناه كطفل برىء، وتنفرج أساريره كعجوز يمتلك ناصية الحكمة، حتى لو كان حزيناً أو مهموماً كان ينتفخ انتشاءً ويتحدّث بفخر عن «الريس جمال» مثلما يتحدّث بفخر عن أبيه أو أمه.. يعتصره الألم على رحيله المبكر، ولا يخلو حديث له عن عبدالناصر من ذكر جنازته المهيبة بدلالاتها الباقية إلى اليوم.
وفى آخر حديث لنا، فى مكتبه بـ«الوطن»، قبل مرضه الأخير، انحصر كلامنا الذى امتد لساعات فى الإعجاز البلاغى للخالق عز وجل بعبارة «ذائقة الموت»، وهى التى اختارها عن قصد، لتكون عنوان روايته الأولى والأخيرة.
قبل هذا كله كانت طلة «الكردوسى» اليومية على تلاميذه وزملائه فى «الوطن» أجمل ما يتبقى له فى ذاكرتنا جميعاً، طلة لا تشبهها طلة، كبصمة الإصبع ونظرة العين.
فى مرضه الأخير، لم أشأ أن أراه فى حالة صحية أو نفسية متدهورة، حتى تحتفظ ذاكرتى بتركيبة الفنان الهائم التى كان تتلبسه، وروحه المرحة وهيئته الساخرة غير المبالية، وصورته التى اعتدت أن أراه عليها منذ تعرّفى عليه، دون أن تشوه تلك التفاصيل، آلام المرض وأوجاع الحياة.