المنحة المنتظرة من رحم صراع موسكو وكييف
هل ظنت الإدارة الروسية مع بدء تحرك قواتها إلى شرق أوكرانيا صبيحة 24 فبراير 2022، أن الحرب سيطول أمدها ليتجاوز العام، وتمتد آثارها لتطال بلدان العالم دون استثناء؟ على الأرجح، أرادت موسكو حرباً "خاطفة"، وفق تكتيك أفرزته الحرب العالمية الثانية، بهدف إخضاع كييف سريعاً لإرادتها، غير أن المعارك مازالت تدور، دون نتائج تشير إلى انتصار أحد طرفي النزاع، حيث تظلُ الحقيقة الوحيدة أن صراع السياسة أشعل فتيل هذه الحرب، واكتوى بنارها الاقتصاد العالمي.
فما كادت الدول تتجاوز تجربة جائحة كوفيد-١٩ المريرة التي غيرت معنى الحياة، حتى وجدت نفسها في مهب صراعٍ يُغير وجه العالم، وكما لجأت الدول والشعوب إلى أسلوب التعايش مع الفيروس الضئيل الذي أزعج البشرية حتى عبور هذه الأزمة، فإن غالب الحكومات باتت متأهبة للتكيف مع سيناريو استمرار أمد الصراع الروسي الأوكراني، أو على الأقل مواصلة التأثر لوقت أطول بالتداعيات السلبية التي يفرضها.
على المدى المتوسط والقصير، تُجاهد الدول من أجل التوصل إلى بدائل لتدبير السلع الاستراتيجية التي تأثرت إمداداتها جَرَاء الحرب، من خلال بناء علاقات مع شركاء تجاريين جدد، أو تدبير تلك الاحتياجات الماسة محلياً، عبر التوسع في القطاعات الانتاجية، وخاصة الزراعة والتصنيع واستكشاف القدرات الوطنية غير المُستغلة، والتي من شأنها تقليل الفجوة الاستيرادية، وتوفير العملة الصعبة لتوجيهها لبنود أهم وأكثر أولوية راهناً، حتى وإن تضمنت توفير جانب من المُتطلبات عبر الاستيراد.
أما على المدى البعيد، فإن البلدان تجتهد لتدشين ترتيبات وقائية تُجنبها الصدمات الواردة من الخارج، مثل جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، لجعل اقتصادها أكثر تماسكاً وصلابة، حيث ستتخذ سبيل تعزيز التعاون مع الدول الصديقة، والاندماج في كيانات أكبر لتحقيق التكامل الاقتصادي، وربما نشهدُ حرصاً أكبر من جانب الاقتصادات العالمية على الترابط والدخول في اتفاقات تجارية أعمق تستثمر الفرص، بصورة قد تدفع على سبيل المثال بريطانيا إلى السعي للعودة إلى مظلة الإتحاد الأوروبي، وتحفز الدول العربية على تفعيل آليات "العمل العربي المشترك" بشكل جدي.
لا أحد في العالم يتمنى أن يأتي فبراير المُقبل ونيران الصراع بين موسكو وكييف لم تُخمد بعد، ولعل تحرك البلدان نحو بناء القدرات الوطنية، ومد جسور التعاون، وتنحية الخلافات السياسية جانباً، سعياً لمصلحة أهم ترتبط بمستقبل الأجيال القادمة، سيكون المنحة التي تولد من رحم هذه المحنة، ليغدو الاقتصادُ مُحركاً يقودُ لإحلال السلام.