الزلزال.. صاحب الهدم شهيد

برد وشتاء قارس وثلوج تهطل على سوريا، لتزيد معاناة المواطن السورى رَهقاً فوق رهقه، سنوات وهو يعانى حروباً ودماراً وتشريداً وأهوالاً وقتلى وجرحى، ميليشيات تتقاتل على الحطام، طائرات تدك بلادهم من كل الجنسيات، إسرائيلية وتركية وأمريكية وروسية، جميعها تدك المواطن السورى الغلبان الذى تحتمى به الميليشيات المتعدّدة وتذيقه الويلات.ما إن سكنت المتفجرات وهدأت الطائرات وبدأ السوريون يلتقطون أنفاسهم إذا بالزلزال المدمر يفجعهم وهم نائمون قُرب الفجر، دمار وخراب وموت وصراخ وعويل، بيوتهم دُمّرت قبل ذلك، ولكن الزلزال جاء ليُجهز على البقية الباقية.كما أبيدوا من قبل العيش تحت الأنقاض، ولكن الزلزال الأخير جعلهم جميعاً تحت الأنقاض، أربعة آلاف قتيل وقعوا صرعى فى لحظة واحدة وجُرح 7115 مصاباً، فضلاً عن ضياع كل ما يخص السورى الذى نجا من هذه المأساة المروعة.

كان فى الوقت نفسه زلزال أكثر منه دماراً فى تركيا حصد قرابة 19 ألف قتيل، وأصاب قرابة 77 ألفاً، وترك صدعاً فى الأرض بطول 100 كم وأدى إلى انهيار أكثر من 12 ألف مبنى فى تركيا، وقرابة ألفى مبنى فى سوريا وشرّد قرابة نصف مليون فى تركيا، وربع مليون فى سوريا.

أما الذين تضرّروا فى تركيا من الزلزال فبلغ عددهم 13 مليون تركى، وفى سوريا تضرّر قرابة 11 مليون سورى يحتاجون إلى مساعدات غذائية وإنسانية.عدة هزات قبل الفجر أدت إلى كل هذا الخراب والدمار، رحمتك يا رب، ما أضعف الإنسان «وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفاً» إنه درس لنا جميعاً، كل من يعيش فى خارج تركيا وسوريا الآن يحمد ربه، يحتقر مشكلات حياته، ويعلم أنه يعيش فى ستر عظيم من رب كريم، ويحتقر بلاءه بالنسبة لبلاء أهل الزلزال.لحظات قليلة حاسمة حوّلت سعادة الأسر إلى شقاء، وضحكهم إلى بكاء وعويل، وأنسهم ببعض إلى فراق وأنين، وحول حياتهم إلى موت، وصحتهم إلى جراحات.

عذابات الزلازل ليس لها نظير، ولذلك بشر الرسول، صلى الله عليه وسلم، كل من يموت فى الزلازل أنه سينال أعظم رُتبة بعد رتبة النبيين والصديقين، إنها رتبة الشهادة «وصاحب الهدم شهيد»، أراد أن يهدهد نفوس الأسر المكلومة بوفاة أبنائها فى الزلازل، وكأن الرسول استشرف المستقبل وعلّم مآسى الزلازل، وأراد أن يبشّرهم بالمكافأة العظمى لمن فقد حياته وماله وأسرته بأنه سيلقى الله ويدخل الجنة دون حساب ولا عقاب.

الزلازل أكبر مأساة إنسانية على وجه الأرض لا يمكن تجنّبها، هى أخطر من الحرب، لأن الأخيرة تتوقف بالسلام والصلح.مآسى الزلزال الأخيرة لا نهاية لها، فهذا رجل تركى اسمه «مسعود» يرفض ترك يد ابنه المتوفى تحت الأنقاض حتى تأتى فرق الإنقاذ.تختلط المآسى بالأفراح، ففرق الإنقاذ والأهالى يهللون فرحاً لخروج الطفلة «نور»، التى انتشرت صورها فى العالم كله وكان وجهها مغطى بالغبار، وهى تبتسم فى بلدة «جنديرس» بسوريا.والطفل أحمد خرج بعد 20 ساعة من تحت الأنقاض.

أما الطفلة السورية «رغد» من مدينة «اعزاز» فقد نجت بعد أن ماتت أمها الحامل وأشقاؤها، أما والدها فقد أصيب بكسور فى الظهر، تُرى ما شعور هذه الطفلة بعد فقدانها لأمها وأشقائها وإصابة والدها؟أى شىء بقى فى الحياة مع كل هذه الأحزان؟ترى صورة مغايرة لذلك فى فرحة رجال الإنقاذ الغامرة بعد إنقاذهم لطفل تركى 12 عاماً بعد 62 ساعة تحت أنقاض مبنى مكون من 7 طوابق.

آيات فى الحياة والموت، لا يعلم سرها إلا الله، الألم يعانق الأمل، والدموع تسابق الابتسامات، الزلازل أشبه بيوم القيامة، كلٌّ فى شأنه، كلٌّ فى كربه، كلٌّ يعيش كارثته ومحنته، لكن هذه الطفلة السورية التى صورتها الكاميرات العالمية تحت الأنقاض وهى تحاول إزاحة الأنقاض عن شقيقها وتحمى رأسه من الحجارة، مقطع مصور من 20 ثانية هزّ وأدمى قلوب العالم العربى، مازحها المسعف قبل إخراجها ليشغلها عن محنتها فسألها عن مهاراتها فى الألعاب، فقالت فى براءة جميلة: «طلعنا يا عمو وأنا باشتغل خدامة عندك»، الآن هذه الطفلة فى المستشفى مع شقيقها الأصغر الذى كانت تحميه، كلاهما مصاب بكسور فى القفص الصدرى وبعض العظام ونزيف داخلى، أما والداهما فقد لقيا حتفهما.سلام على شهداء الزلزال فى سوريا وتركيا، سلام على أهل الابتلاء والصبر، رحمتك يا رب بهم وبأهلهم، وشفاءً عاجلاً للمصابين، وشكراً لك يا رب سترتنا ولم تحملنا من البلاء ما لا نطيق، يا قومنا فى مصر وغيرها من بلاد العرب اشكروا الله على العافية، واقتربوا من الله أكثر وأكثر، عبادة وطاعة وإنابة وشكراً.