«عُلا».. ما زال النهر يجرى
تستغرقنى كلمات جبران خليل جبران: «أعطنى الناى وغنى، فالغنا سر الوجود، وأنين الناى يبقى بعد أن يفنى الوجود»، ولا أستطيع أن أقطع استرسال فيروز: «أعطنى الناى وغنى وانسى داء ودواء، إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء».
حالة من الوجد تطوف بك بين الصخور والقصور والسواقى وعناقيد العنب، تقودك إلى اختبار التجرد من قيود الغنى إلى ثراء العطاء، فتخرج من ذاتك إلى الآخر، زاهداً فيما سيأتى، ناسياً ما قد مضى، ويتحول العطاء إلى فضاء بلا سقف، ويصبح تخفيف آلام البسطاء والمتألمين قمة تحقيقك لوجودك.
ماذا لو وجدنا هذه المعانى متجسّدة فى شخص، عبَر على مسيرة الحياة كشهاب، سيدة مصرية، كتبت سطور حياتها نحتاً فى وجدان وضمير مصر، وطاردت الداء الذى يفترس الملايين من البشر وتوفر فى مواجهته الدواء، وتحفز القادرين على اقتفاء خطواتها، وتتبرع بأول مليون جنيه، فى صمت، لمكتب استشارى أمريكى ليرسم الخطوط الأولى فى تحويل حلمها إلى واقع عرف باسم «مستشفى 57357». كانت تؤمن بأن العمل الجماعى هو الأبقى، فتؤسس «جمعية أصدقاء معهد الأورام» 1998 مع نفر يؤمنون بقيمة العمل الجاد على الأرض بعيداً عن الكلام المرسل المخملى والطوباوى الذى تختنق به الندوات والمؤتمرات، فتدعم معهد الأورام القومى بمعدات وخبراء ومشروعات بقيمة 20 مليون جنيه، لتخفيف معاناة مرضى السرطان وتحسين فرص شفائهم، وتتبنى نهج الرعاية اللاحقة، ونشر الوعى لدى الشارع وأطفال المدارس فى مختلف المناطق عن هذا المرض وكيفية التعامل معه ومواجهته، وتنشر أول برنامج تعليم صحى «الصحة فى الصورة».
تدرك السيدة عُلا لطفى زكى، أن معهد الأورام لم يعد كافياً لمواجهة طوفان المرضى، وأغلبهم من غير القادرين، وترصد أن الأطفال يحتلون المقدمة فى قائمة الانتظار فى مواجهة مرض لا يعرف الانتظار، فتتبنى من خلال الجمعية فكرة إنشاء مستشفى متخصص لعلاج أورام الأطفال، فطرحت فكرة مستشفى 57357، وتتحمل الجمعية مراحل دراسة الجدوى والتخطيط والتصميم والبناء، وتطرق «علا الأيقونة المصرية» كل الأبواب، فى غير اكتراث بصدود البعض من رجال الأعمال، وجفاء البعض، فى لجاجة ومثابرة، حتى يكتمل الحلم الذى تحول إلى مشروع قومى، يُفتتح فى 7/7/2007، ليصبح الأكبر من نوعه فى الشرق الأوسط، وفى غمرة انشغالها برفع المعاناة عن المرضى، والممتد لنحو عشرين عاماً فى تواصل لا يعرف المهادنة، يقتحمها المرض نفسه، فلا تنتبه إليه وهى مستغرقة فى العطاء والبذل، وحين تكتشفه يكون قد تملّك منها.
كان يومها يشهد لساعات وجودها الذى تحرص عليه وهى تحتضن الأطفال عقب خروجهم من غرفة العمليات لتجفف دموعهم وتخفف آلامهم، وتتحاور مع أمهاتهم ترشدهن وتقدم لهن نصائحها وإرشاداتها، وتتابع احتياجاتهن.
تأتى «علا» إلى العالم 29 يناير 1960، وترحل عنه 18 ديسمبر 2012، بعد رحلة علاج قصيرة فى أمريكا لنحو أربعة شهور، وتفتح الكاتدرائية المرقصية أبوابها للصلاة عليها 13 يناير 2013، وكأنها على موعد مع شهر يناير، فيه تدخل العالم، وفيه تنطلق إلى السماء محاطة بصلوات ودعوات عشرات الآلاف من الأطفال وأسرهم الذين أحاطتهم بحنانها وعطائها.
كم هى عبقرية أمثالنا الشعبية «السيرة أطول من العمر»، إذ ستظل الأجيال تذكر ما صنعته هذه المرأة الرائعة، ولعل الدولة تتذكرها فتخصص جائزة سنوية باسمها تُمنح لمن يقتفى أثرها ويقدم للوطن عملاً خيرياً يرفع فيه الألم عن معوزيه وفقرائه. كم نحن بحاجة إلى بعث القيم التى جسّدتها علا لطفى زكى، الشهيرة بـ«عُلا غبور»، العطاء فى صمت، وخدمة المعوزين الذين ليس لهم أحد يذكرهم، وإنكار الذات، وإعادة الحياة للعمل الخيرى بعيداً عن استثمارات السياسة والصراعات.