محشي ياسر رزق وسيجارته

يحيا الإنسان بمن يحب، ويموت بهم أيضا، إذا أهملوه، يحارب الإنسان في حياته بجندي واحد هو الحب، الحب هو الصانع لكل شيء والمانع من كل شيء.

عرفت أماني ضرغام من خلال ياسر رزق فعرفت ياسر رزق من خلال أماني ضرغام، هما أستاذان عظيمان في المحبة قبل المهنة، كان ياسر رزق رحمة الله عليه أبا لكل من عرفه، ومازالت أماني ضرغام متعها الله بالصحة والعافية كذلك.

أما لكل من عرفها.. كان أول احتكاك مباشر مع ياسر رزق عندما تولى رئاسة تحرير المصري اليوم 2013، وهي سنة من أصعب وأدق سنوات العمل الصحفي.

وجدته يتصل بي، وكنت رئيسا مناوبا لقسم الأخبار يسألني عن مسئول الشفت المسائي بقسم الأخبار، أيقنت لحظتها أن زملاء الشفت "زوغوا" من الجريدة، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ونصف مساءً.

لم أجد نفسي إلا أن أجيبه مسرعا: أنا مسئول الشفت يا ريس ، فسألني: أنت فين، رديت عليه: على القهوة وجاي، كنت قد وصلت البيت في التاسعة تقريباً.

أسرعت أرتدي ملابس الخروج، وأستقل تاكسي من الدقي إلى جاردن سيتي، ومنها إلى شارع المبتديان مهرولاً.

عندما وصلت للأستاذ، نظر إليّ نظرة ثاقبة معاتبة، بسبب غياب الزملاء عن الشفت في هذه الظروف، وكأنه يقول لي أعلم بكذبك، وأنك تخبئ الحقيقة بشأن الزملاء، فجدول الشفتات معلق بالأقسام.

ابتسمت بخجل، فربت على كتفي، قلت له: تحت أمرك ياريس، أشعل سيجارته، وطلب مني الاتصال بأحد المصادر للتأكد من معلومة متداولة قبل تسليم بروفة الطبعة الثانية.

كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلا، فاستحضر ذهني ليالي الأستاذ التي كان يقضيها للفجر في اجتماعاته عندما كان رئيسا لتحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون.

لم أتنفس الصعداء إلا عندما جاء اتصال للأستاذ، فابتسم، قائلا: أنا جاي أهو.. تعملي إيه؟!.. اعملي محشي! نظر إليّ وهو مبتهج قائلا: المدام بتقولي أعملك إيه على العشاء، فقلتلها أعملي محشي.. قلت له وماله يا ريس ..حلو المحشي طبعا!

طلب مني البروفة النهائية للمراجعة، ثم غادر الجريدة، وأنا أتساءل بيني وبين نفسي من هذه الزوجة التى تتصل في هذا الوقت تسأل عن موعد عودة رجل كياسر رزق، بل تسأله عما يريد تناوله على العشاء.

من هذه السيدة التي تحتّمل رجل مثل ياسر رزق الذي يحمل هموم الدنيا على كتفيه طوال الوقت..رجل ممتلئ بالسياسة والصحافة والعمل النقابي، ترافقه سيجارته وقلمه دون كلل أو ملل على الدوام.

لم أكن أعلم أن أماني ضرغام هي زوجة ياسر رزق، حتى عندما طلبت منه يحدد لي شخصا أذهب إليه في الأخبار، عندما خضت انتخابات نقابة الصحفيين، قال لي: هتلاقي أماني ضرغام منتظراك هناك.وهنا بدأت أتعرف على أستاذة ومُحِبة وزوجة وزميلة ونقابية وكاتبة من نوع فريد لياسر رزق.

هنا وجدت الإجابة عن سؤالي من السيدة التى تحتّمل ياسر رزق بكل همومه اليومية، بل وتحتّمل أيضاً جنبا إلى جنب معه هموماً مماثلة في نفس مهنة البحث عن المتاعب.

محبتي لياسر رزق الإنسان لا تقل عن محبتي لياسر رزق الكاتب الصحفي أو ياسر رزق النقابي أو ياسر رزق الإداري، غير أن محبتي لياسر رزق الإنسان ارتبطت بمحبتي بنصفه الآخر أماني ضرغام، ثم تعمقت عندما رأيت المحبة والتناغم بينهما..هكذا يحيا الإنسان وإما لا.

عندما تم اختياري من الزملاء عضوا لمجلس نقابة الصحفيين، سمعته يقول لزميلة: "النهارده فاز ثلاثة من أبنائي.. اتنين من الأخبار وواحد من المصري اليوم"، اخترت لجنة ياسر رزق "لجنة الإسكان" التي حفر بها اسمه النقابي، وأنا أعلم ما بها من صعوبات، حتى أن أحد الزملاء في مجلس النقابة وقتها اتهمني بالجنون!

عندما قابلني ياسر رزق بعدها بأيام ابتسم ابتسامته المعتادة، وثقبني بنظرته التي تحمل آلاف المعاني، وسألني عن اختياري لجنة الإسكان فقلت له: "خليني أجرب"، ربت على كتفي وقالي: "أنت قدها".

لا ينتظر مُحبو ياسر رزق ذكرى غيابه، فهو دائما في القلب، وهو دائما أمام أعيننا، وفي كل صباح تذكرنا المحبة الأستاذة أماني ضرغام بمحبة الأستاذ، فتتجلى لنا سيرته بتفاصيل جديدة..مبهرة نتعلم منها يوماً بعد يوم.