مصر.. الدولة الوطنية
إذا أردنا توصيف مصر بدقة فهى الدولة الوطن، فهى بفعل الموقع والتضاريس ومراكمات التاريخ، صارت البوتقة التى تندمج فيها الأعراق والانتماءات، بل تستوعب المقبلين باختلاف أغراضهم، تُمصّرهم، تأخذ منهم وتصبغهم بنكهتها ومزاجها العام.
وعندما ارتبكت بوصلتها بفعل محاولات فرض رؤى مغايرة لطبيعتها، وافدة تسعى لتغريبها أو تصحيرها، على امتداد ما يقرب من القرن، تاهت بين مسميات وتوصيفات متباينة، لكنها كلها كانت جملة اعتراضية، رغم امتدادها ورغم التجاذبات والتشابكات، وما دفعته من ثمن فادح، إذ بها تعود إلى وصفها التاريخى «الدولة الوطنية»، التى استردتها ثورة 30 يونيو، التى اختفت فيها المطالب الفئوية والطائفية، فى مشهد راقٍ متألق رسمه الشعب المصرى على امتداد خريطتها.
وفى هذا السياق، تأتى زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الكاتدرائية لتهنئة المواطنين المصريين «المسيحيين» بعيد الميلاد المجيد، لتصحح عواراً، امتد بعمر الدولة الوطنية منذ محمد على وحتى لحظتها، العوار الذى كرّس لاعتبار هؤلاء المواطنين «آخر» يصنّف على أرضية الانتماء الدينى.
وبعيداً عن ردود الفعل المرتبكة والمنزعجة التى كشفت أن التطرّف يقبع عند كثيرين، سواء عند من اعتبروا الزيارة خروجاً عن المعروف بالضرورة من الدين، أو نظرائهم على الضفة المقابلة من نهر التطرّف، والذين اعتبروها كسراً لطقوس دينية لها قدسيتها، وكلاهما يشكلان كتيبة إفساد اللحظة، بفعل تجريف الذهنية المصرية الذى تمارسه تيارات التطرّف بدأب.
بعيداً عن هذه الانفعالات المتوقعة، كانت الغالبية المصرية مرحبة، بل مغرقة فى التفاؤل والفرح بها، فهى بمثابة وضع حجر الأساس فى بناء الدولة الوطنية مجدداً، فقد توجّه الرئيس بكلمته مباشرة إلى الناس المواطنين دون أن يوسّط الكنيسة فى نقلها، أو أن يهنئ المواطنين عبر تهنئته للبابا البطريرك، وحرصه على أن يكون كلامه للمصريين دون إضافة صفة تمييزية، وأخاله قد علق الجرس فى رقبة قط الترهيب والتخويف، وأطلق طاقات الاندماج من صدور المصريين، فجاءت انفعالاتهم الإيجابية تعلن دعمها لبناء الدولة الوطنية، وكانت الأصوات المسلمة تسبق وتتفوق عدداً على الأقباط، فى تأكيد جديد على أن المواطنة شغف ومطلب كل المصريين. والرافضون كمية تقترب من الصفر، يملكون من الضجيج ما يتجاوز حجمهم مئات المرات. دعونا نبنى على هذا التأسيس الرئاسى، عملاً جاداً فى تنقية الأجواء من ثقافة الكراهية والإقصاء، رأسياً على امتداد الهرم الحكومى، وأفقياً على امتداد مؤسسات الدولة والمجتمع، وإعادة هيكلة منظومة القوانين والقرارات والتوجيهات لتصب فى دولة المواطنة، الداعمة للعدالة والمساواة بغير مغازلة للطبقة أو الطائفة، والتعامل بجدية مع منظومات التعليم المحتشد بالتراجع العلمى والداعم للتطرّف، سواء فى التعليم العام أو منظومة التعليم الأزهرى، والإعلام الذى يفتقر فى معظمه إلى ضوابط المهنية وقومية التوجّه وسيطرة كوادر تفتقر إلى الحس الوطنى، ومغازلة ودعم أنظمة غربت وكمون الفساد والتطرّف بين أركانه، وثقافة كادت تُحال إلى غرفة الإنعاش، وقد اختنقت من الثقافات المتصحّرة وخيارات رأس المال الساعى لتحقيق ثروات على حساب منظومة الرقى والجمال. التجديد فى أداءات الأجهزة الحكومية لا يتوقف عند التطوير فى الأدوات واستحضار آليات الميكنة والتكنولوجيا الرقمية الإلكترونية بينما العقول المستخدمة لها محتجزة عند حدود القرن الثامن عشر، وربما نحتاج إلى جسارة اقتحام ترهل هذه الأجهزة، بشكل مبتكر، تحويلى، يعيد هيكلة إداراتها وتدريب جيش الموظفين على خبرات جديدة فى سوق العمل، يخفّف الضغط على المؤسسات المتخمة ببطالة مقنّعة، وينمّى دائرة الإنتاج ويصحّح اختلالات الموازنة ويقلّص العجز فى إيرادات الدولة، ويقلّل من عيوب الإنتاج.
دعونا نعيد المؤسسات الدينية إلى حجمها الطبيعى ومكانها الصحيح، وقد استهوتها وخايلتها نداهة وأضواء الإعلام والسياسة، وشهوة احتجاز الذهنية العامة، حتى شاغلتها عن دورها التنويرى فى دوائر الرعاية الروحية والتعليم، فارتدت إلى عصورها المفارقة لروح النصوص، ووقفت عند حدود النقل وحاصرتها كتب تراثية غير محققة، تتبنى الترهيب والقصاص ومحاكمة الضمائر وملاحقة التجديد ومحاصرته ومحاكمته.
مصر المستقبل لن تتحقق إلا بثورة ثقافية جسورة تُبنى على نسق اقتحام الرئيس السيسى لتابوهات استقرت وصار الاقتراب منها من المحرمات، لم تكن الزيارة دينية ولم تكن مغازلة للأقباط، بل كانت فتحاً لطريق جديد يعيد تأسيس الدولة الوطنية، وعلى المقيمين خارجها المسارعة للمشاركة فى بنائها ودعمها حتى نلحق بركب الدول التى سبقتنا، ونسير معها فى درب التنمية والإنسانية.