محسن عبدالعزيز: يوسف إدريس أكثر موهبة من محفوظ.. ومصر استعصت على «الإخوان الغزاة» (حوار)

كتب: ياسر الشيمي

محسن عبدالعزيز: يوسف إدريس أكثر موهبة من محفوظ.. ومصر استعصت على «الإخوان الغزاة» (حوار)

محسن عبدالعزيز: يوسف إدريس أكثر موهبة من محفوظ.. ومصر استعصت على «الإخوان الغزاة» (حوار)

ولد عفريت أرقته البلاد، فتمرد وعبر من ريف «المنيا» إلى عاصمة المعز، ساعيا وراء حلم راوده منذ الصغر، أصر على الالتحاق بصاحبة الجلالة بدأب مدهش، لتأخذه نداهة الصحافة بلا رجوع، منذ التحاقه إلى مجلة الشباب، مرروا بانتقاله إلى الأهرام، وصولا إلى مكتب عبد الوهاب مطاوع بالدور الرابع في مبنى الجريدة المهيب، مشرفا على ملحق الجمعة، مواصلا السير في حدائق الآدب والصحافة في آن.

يمتلك محسن عبد العزيز، قدرات مدهشة على الكتابة، فضلا عن اهتماماته المتعددة ورؤيته المختلفة، ما جعل الراحل الكبير جلال أمين يصفه بـ«الحكاء الماهر»، إذ بدأ حياته الأدبية كاتبًا للقصة القصيرة، بعد التحاقه بالعمل بالصحافة عن طريق أستاذه الراحل عبد الوهاب مطاوع في عام 1995، مستكملا طريقه الذي بدأه من قريته حينما أنشأ مجلة محلية تناول من خلالها مشكلات القرية البسيطة، وظل متمسكا بتراثه الممتد إلى سنوات الطفولة والشباب، ما يظهر بوضوح تام في كتاباته المختلفة المتأثرة بالقرية دوما.

- من قرية في المنيا حتى مكتب عبد الوهاب مطاوع بمؤسسة الأهرام العريقة.. أبرز محطات الكاتب الصحفي والروائي محسن عبد العزيز؟

كنت أحلم بالعمل في الصحافة طوال عمري، حتى أنني أنشأت مجلة ايام الدراسة، كانت تتناول مشكلات قريتي البسيطة، و«كنت عامل نادي أدب في قريتنا»، الصحافة كانت هاجسا منذ الصبا، وبعدما تخرجت في الكلية، كنت مندهشا وأخذت أفكر كثيرا في تلك الخطوة، حتى عزمت أمري وعبرت إلى العاصمة بضجيجها وصخبها وزحامها، وصاحب الفضل الأول في التحاقي بصاحبة الجلالة، كان المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مطاوع الذي أتشرف بالجلوس في مكتبه الآن، حينما ذهبت إليه وقلت له إني أريد أن أعمل بالصحافة وليس لي واسطة.

الأدب والصحافة يتنازعاني دائما.. وحتى أفهم لا بد أن أكون شيطانا

ألحقني أستاذي رحمه الله بمجلة الشباب عام 1995، بعدما أخبرته بأنني لا أجيد العمل بغيرها، ثم انتقلت إلى الأهرام بعدها بـ5 سنوات، وأصدرت أول مجموعة قصصية قبل التعيين في الأهرام، الذي انتقلت إليها من «الشباب» عام 1999، من البداية وحتى اليوم الأدب والصحافة أهم محورين في حياتي، ولا أستطيع الاستغناء عن أي منهما، فهما يتنازعاني طوال الوقت، ولا أستطيع الحياة بدونهما، والحمد لله أحافظ على خطيهما المتوازيين قدر المستطاع.

- بين ولد عفريت تؤرقه البلاد إلى شيطان صغير عابر.. ما أبرز التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية بالنسبة لك؟

في رحلة الحياة تصطدم بأشياء كثيرة لا نجد لها إجابات، والإنسان بطبيعته يخترع أساطيره، أشياء كثيرة لكي نفهمها نحتاج أن نكون شياطين أو عفاريت، لأننا دائما نبحث ونفتش عن المعرفة التي تنتهي بألم وأرق دائم، عندما خاطب الشيطان الله عز وجل، كان يبحث عن المعرفة، وفي بلادنا، دائما ينعتون المثقف بأنه مريض بالفكر، لكني نظرت للشيطان هنا والعفريت هناك، بالمعنى الجيد وليس السيئ، هذا المخلوق الشغوف الباحث عن الإجابات بشكل مستمر، وهو قدر كل متعلق بالكتاب أو الصحيفة، نعيش حياة قلقة ونظل نلهث وراء المعلومة.

- تحدثت في الأولى عن «أرق» وفي الثانية «عبور».. أهناك تماس بين المعنيين؟

كما قلت قبل قليل، أنا طوال الوقت أسعى للمعرفة والفهم، ولكن المعرفة عبء ثقيل، فحكمة الحياة تقول أن ما يأتيك ليس نتيجة تلك المعرفة والبحث والتنقيب، للحياة فلسفات عجيبة، فالحديث القدسي العبقري يقول: «وعزتي وجلالي لأرزقن من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل»، المعرفة تسمح لك بعبور وتخطي صعوبات الحياة، رغم ما تعانيه من ألم وأرق وشغف، فالحياة ليست كما نريد ولا كما نعرف ولا كما نقرأ، الحياة قائمة على الصراع، والحضارة تقوم على الصراع، فالحروب تصنع العلم وتصنع الحضارات، وجميعنا نريد أن نعيش في صفاء وهدوء وطمأنينة.

- بعض الأقلام التي تناولت «شيطان صغير عابر» اعتبرتها سيرة ذاتية مصغرة.. هل هذا صحيح؟

بكل تأكيد هناك أجزاء عكست الحياة الخاصة في القرية، بأشجارها، وريفها، فضلا عن المغزى الإنساني العام، وذلك الطفل الصغير في قرية صغيرة في الصعيد، الذي أصبح صحفيا في جريدة كبيرة في العاصمة، وإصدار صحيفة في سن مبكرة توزع في قريتنا وقرى مجاورة، وتحدث تفاعلا كبيرا من الأهالي، وهكذا بفصولها المختلفة، لكنها مقتطفات أو شذرات من حياة ما، المهم أني أكتب ما أعرفه وما أؤمن به، وكل قارئ يراها من وجهة نظره وفهمه، كثيرون قالوا لي بعد قراءتها، إنهم وجدوا أنفسهم فيها، أو كأنها كتبت عنهم أو لهم.

أغلب المبدعين من الريف.. الحياة هناك ممتدة ومملوءة بالأساطير

- ماذا عن تعلق محسن عبد العزيز بالقرية وأصوله الريفية رغم الإقامة الكاملة والتامة في العاصمة وهو ما نلمسه في جميع كتاباته؟ 

لا يوجد تفسير عقلي أو منطقي، لكن الأقرب أن الإنسان دائما يعيش بالحنين، وحياة الريف حياة ممتدة عريضة، مملوءة بالأساطير، ووراء كل التفاصيل يعيش طفل القرية إلى ما لانهاية من الأساطير، فطفل القرية يختلف عن طفل المدينة تماما، لأنه يعيش التجارب بنفسه، لذا تجد أن أغلب المبدعين من الريف، لأن التجارب أثقلت خبراتهم وحملتهم بإبداع حقيقي، وتظل تلك المرحلة الأولى مصاحبة للمبدع في مشواره، هي مرحلة خصبة جدا، واستراجعها سهل طالما صاحبها مخلص لها ويعود إليها بذاكرته.

الحياة في الريف تتسم بالحقيقة الدائمة، بساطة الشيوخ، وحكمة العجائز، ونزق الشباب، فضلا عن التراحم وإحساس الناس ببعضم، إذ هم أكثر عطفا وحنوا وتراحم، إذ أخذوا من الأشحار الظلال، ومن النخيل الشموخ، شخصيات رحيمة مهما كانت قاسية، بالطبع فترة الطفولة وبداية الشباب تأثيرها كبير جدا على أعمالي، لأنني عايشتها بصدق وتغلغلنا سويا، الريف متجذر داخلي وأعشق كل تفاصيله الحزينة والمفرحة، إذ بدأت أحلامي الأولى هناك، وشاركتني آمالي وآلامي، وسأظل ممتنا دائما لبداياتي.

مصر دولة عظيمة استعصت على كل الغزاة.. آخرهم الإخوان

- ننتقل إلى مرحلة الكتابة الفكرية وتحديدا «الاستبداد من الخلافة إلى الرئاسة».. ماذا عن كواليسه؟ 

جاءت فكرة هذا الكتاب ضد «التوريث»، وأول فصوله كان «بيعة يزيد بن معاوية أطول بيعة في تاريخ العرب»، انطلاقا من سقوط بغداد في عام 2003، والكتاب خرج في عام 2007، وما تلاها من أحداث مؤلمة على العراق الحبيب وشعبه، قلت من خلاله أن مصر مختلفة عن غيرها، لأنها دولة عظيمة جدا، ولن تسقط أبدا، والدليل أنها استعصت على كل الغزاة على مر التاريخ، وآخر هؤلاء جماعة الإخوان الإرهابية التي اتسم عامها بالسواد الحالك.

ولكن مصر بشموخها وعظمتها، استعصت على تلك العصابة، لأنها دولة مؤسسات قوية، جذورها عميقة جدا بجميع مؤسساتها التي تتسم بالتاريخ العريق والممتد لآلاف السنين، لذا تمتص الصدمات بشموخ مدهش، تلك المؤسسات العظيمة، سواء ثقافية أو قضائية أو أمنية، تعاملت مع الإخوان، على أنها طفيليات امتصتها ولفظتها ببساطة وسهولة، ما يدل على عبقرية وعمق هذه الدولة، التي يحفظها الله بقوة مؤسساتها وشعبها وجيشها، وستظل هكذا دائما إلى ما شاء الله.

للحياة فلسفات عجيبة.. والمثقف ليس ثوريا أو سياسيا

- ماذا عن دور المثقف الإصلاحي؟

دور المثقف ليس سياسيا ولا ثوريا، بل عليه إعطاء الإشارات والنصائح، المواطن يفهم ويستوعب من خلال الثقافة والمثقفين، وتاريخ الثقافة المصرية ممتد ومعروف لمئات الأسماء التي نشرت الوعي والثقافة، والإصلاح يحتاج إلى نهضة تعليمية، كما قال الإمام محمد عبده من أكثر من 100 سنة، يحتاج إلى ثقافة جادة وسليمة وقويمة، عليك أن تنظر حولك، ستكتشف بسهولة أننا نحتاج وبشدة إلى ثقافة حقيقية.

- في كتابك «عبد الناصر والسادات» الحيادية والموضوعية كانت واضحة.. كيف فلت قلمك من الاستقطاب الناصري أو الساداتي؟

الكاتب يجب أن يكون محايد قدر المستطاع، عند تناول التاريخ، وهذه من آفات المثقفين لدينا، فنحن لا نرى سوى المميزات والعيوب، بحسب الحب والكراهية، وذلك ما جردت نفسي منه تماما، الكتابة عن الشخصيات التاريخية تحتاج إلى مرآة كاشفة للعيوب والمميزات، بكل ما تحمله الشخصية من أفعال، لا يمكن إغفال حرب أكتوبر للسادات، ولا السد العالي لعبد الناصر، وهو ما أحافظ عليه طوال الوقت في كتابتي، وسأظل هكذا دائما.

ولا يجب أن يكون المثقف طرف في رأيه مهما حدث، نحن نعاني دائما في مصر من الحب والكراهية، فعبد الناصر بناء عظيم والتاريخ شاهد على ذلك بكل تأكيد، والسادات داهية، ولعل مواقفه المراوغة توضح ما يتسم به من مكر، ولماذا التصنيف أصلا؟ أو لم يبني محمد علي دولة قوية، أنقول أنه لم يبني، ومن الخديوي سعيد مثلا، مثلما فعل كوارث، أجرى أمور عظيمة إصلاحية وكانت لصالح الشعب المصري. 

فترة حكم الإخوان كئيبة.. ومؤسسات الدولة لفظتها بسهولة ويسر

- في كتاب «رجال حول الوطن» ذهبت إلى منطقة أخرى متناولا شخصيات بعينها وكأنهم أعمدة تستند إليها ومصابيح تضيئ الطريق للهداية؟

هذا الكتاب كتبته في أشد الفترات كئابة، إذ كتبته أثناء فترة حكم الإخوان الكئيبة والحزينة، وكتبته لأنني أردت أن أعتصم بهؤلاء ضد هذا الواقع المحبط والكئيب، لأقول إن هذا الوطن قوي، فهو الذي خرج عبد الناصر، الشاذلي، الجمسي، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، لا يمكن أن يسقط أبدا، في لحظة شديدة القتامة، وأكثر من شعر بهذه القتامة «المثقفين»، كنت أريد القول إن مصر شامخة، عظيمة، قوية، رائدة، بفضل هؤلاء الرجال، فهي عظيمة في كل المجالات، وفي كل وقت لدينا عظماء، كنت أكتب هاربا إليهم.

تخيل معي أنك تكتب عن محمد نجيب، عبدالناصر، الشاذلي، وعبدالغني الجمسي، بكل شموخهم وعظمتهم فضلا عن مراحل التوهج والخفوت والتعثر، التي تتسم بالقوة حتي في ضعفها، ويأسهم يتحول إلى أمل كما حدث مع حرب أكتوبر، ثم نتحدث عن نجوم مبهرة ودورهم في تحريك العقل العربي وتحريره، مثل الإمام محمد عبده، لويس عوض، أحمد بهاء الدين، محمد حسنين هيكل، وعبدالوهاب مطاوع، وغيرهم، ممن أقول من خلال سيرتهم أن مصر كانت وستظل شامخة، أبية، وعصية على الهوان.

- لو فكرت في كتابة جزء ثانِ من «رجال حول الوطن».. من ستتناول من شخصيات؟

الحقيقة ما يشغلني دائما، فكرة أساطير الشخصيات، أكثر من الشخوص نفسها، ومنها ما كتبته عن أسطورة عبد الناصر مثلا، الذي تكمن قوته في معرفته للإجابة الصحيحة دائما، ومنها إلى أساطير الوطن، الذي اخترع الأديان والثقافة، وأنجب يحيى حقي، وكامل الشناوي، ويوسف إدريس، وصلاح جاهين، ونزار قباني، وأمل دنقل، فضلا عن الأساطير التى حكمت حياة عبد الناصر والسادات ونجيب محفوظ وجمال حمدان وأم كلثوم وسعاد حسني.

وهناك العديد من الأسماء التي تركت بصمات شخصية لدي، وتأثرت بها وما زالت محفورين في الوجدان، ما أود أن أقوله باستمرار، إن مصر على مدار تاريخها لا تخلو من الإبداع والمبدعين في شتى المجالات، وستظل هكذا دائما، وهنا يستحضرني قول الفاجومي «مصر ولادة»، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى إثبات، فالحضارة المصرية جذورها عميقة وممتدة لآلاف السنين، رغم ما حدث من فجوة ثقافية وقطيعة حضارية، لكنها مبهرة في وثباتها وعودتها إلى الريادة في «غمضة عين». 

نعاني من قطيعة حضارية.. وأطالب بتدريس اللغة الهيروغليفية

- ما المقصود بالقطيعة الحضارية؟

مصر حدثت لها كارثة لم تحدث لدولة في العالم، وبالتحديد عام 415 عندما أصدر الإمبراطور الروماني، قرارا بمنع تعلم أو تدريس، أو التحدث باللغة الهيروغليفية القديمة، عندما اكتشف أن مصر كانت تحتل العالم كله بالثقافة، فاستغل حادث سحل «هيباتيا» في الإسكندرية، فاتخذ هذا القرار الذي أدى للقطيعة الحضارية التي أدت إلى هذا التخلف الذي نحياه اليوم، لا بد من تدريس اللغة الهيروغليفية، على الأقل لا نحتاج إلى مترجم عندما ندخل إلى المعابد.

هذه القطيعة أدت لكوارث متتالية، جعلتنا ننتظر شخص مثل شامبليون بعد مئات السنين، ليكشف لنا عظمة وحضارة المصريين القدماء، الذين برعوا في الطب والفلك والهندسة، فضلا عن البناء والفنون بجميع فروعها، وننظر إلى حضارتنا بانبهار مؤلم، لأننا لم نعد كما كنا في السابق، وهو ما ينسحب على جميع الفنون الأخرى، الخلاصة أننا يجب علينا أن نعود إلى التنقيب والبحث كنوزنا السحيقة، ولا بد من تدريس اللغة الهيروغليفية القديمة.

- قلت: سئمت ثلاثون عاما أشرب من بحر الأكاذيب، فلا أنا شبعت ولا البحر نفد، الموت صار حلما.. هذه الجملة على قسوتها جاءءت في مجموعة كأنني حي.. أما زلت على الحال ذاتها؟

الكتابة أحيانا تكون ابنة لحظة فكرية أو «قنوت»، ربما كتبتها في الأيام الكئيبة التي كانت مع حكم الإخوان البائد بلا عودة، لكنها بكل تأكيد ابنة لحظة يأس عظيمة، والكتابة فعلها ساحر في الخروج من الآلام والدواء الناجع والناجز للطرفين سواء الكاتب أو القارئ، وعلى أي حال الكتابة انعكاس لواقع حتى لو مملوء بالخيال، فهي تعبر عن ما يشعر به الكاتب في لحظات معينة سواء انتصار أو انكسار، مقسمة بين ألم وأمل وحزن وفرح وضحك ودموع، وغيرها من المشاعر الإنسانية المختلفة.

مصر كانت وستظل شامخة أبية وتتسم بالقوة حتى في أشد لحظات ضعفها

- لمن يميل محسن عبد العزيز إبداعيا.. يوسف إدريس أم نجيب محفوظ؟

أنا أميل إلى يوسف إدريس، فهو أكثر موهبة من نجيب محفوظ، لكن صاحب نوبل موهوب أيضا، والأخير كان أكثر تنظيما، فنحن لدينا نماذج فذة في إدارة الموهبة، وهم نجيب محفوظ، أم كلثوم، ومحمد حسنين هيكل، ومن الممكن أن نضم إليهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فالموهبة من وجهة نظري، إما تأكلك أو تسيطر عليها وتتمكن من إدارتها الجيدة، لكي تصل إلى تلك المكانة العظيمة التي وصلت إليها الأسماء التي ذكرناها أو تظل بوهيمي هكذا، وتكتب وتبدع وتنشر وتتبؤأ مكانة عظيمة أيضا، ولكن تظل كوكب الشرق واحدة ونجيب محفوظ واحد.

الموهبة الضخمة جدا، تجد صاحبها غير طبيعي مجنون، وتجدها تنتج يوسف إدريس، أمل دنقل، أحمد زكي، سعاد حسني، أما الذين تمكنوا من موهبتهم وسيطروا عليها، فتسفر عن هيكل بكتابته المنضبطة، نجيب محفوظ المنظم جدا، عادل إمام نصف موهبة لكن تنظيمه جعله الزعيم، ويوسف إدريس لم يستطع التحكم في موهبته المتفجرة، أما نجيب محفوظ أقرب إلى الفيلسوف، فهو مفكر عظيم، وحتى ذكائه منظم ومحسوب، وطوعه لحساب موهبته، لا يستطيع أحد قراءة أدب يوسف إدريس ولا يستكلمه حتى النهاية.

- نتحدث عن فترة ثرية جدا في تاريخ مصر.. ما سبب تجمع كل هؤلاء في حقبة واحدة وتفجر موهبتهم رغم الصراعات؟

الموهبة متفجرة في مصر دائما، وهي مرحلة ثرية بالفعل، وحتى الصراع كان محموما ومقبولا وفي حدود احترام كبير، حتى فوز نجيب محفوظ بنوبل، كان يوسف إدريس يكن له التقدير والاحترام، وبالمناسبة في حوار مع مجلة الهلال، يوسف إدريس قال إن نجيب محفوظ يستحق نوبل، ولم يكن نجيب حصل عليها وقتها، أما بعد الفوز فأمور أخرى تعود لطبيعة «إدريس» المتمردة، إذ أنه كان يعتز جدا بموهبته.

الرموز في دائما موجودة، ولكل عصر رموزه، فلدينا الآن أسماء عظيمة جدا، مثل المخزنجي، صنع الله إبراهيم، محمد جبريل، أحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم العشرات، وللحق كان لهيكل دور كبير في هذه الحالة، إذ جمع كل كتاب مصر في الدور السادس بالأهرام، «يعني لما يروح يجيب توفيق الحكيم، وعقده كان مقابل لا شيء، ويحصل على راتب مثل راتب هيكل»، حتى توفيق الحكيم نفسه كان متعجبا، لأنه كان يتقاضى راتب ضخم جدا نظير تواجده في الأهرام فقط، فضلا عن نجيب محفوظ، الذي نشر له هيكل رواية أولاد حارتنا بشكل يومي.

الخلاصة أن مصر لا تخلو من الإبداع والمبدعين أبدا، لكن يحتاجون إلى الدعم الدائم والمستمر، لأنهم قيمة وعقول لا تسعى لشيء، لكن مع الأسف، كل من يكتب يتحول إلى مثقف، وهذا هراء، المبدع الحقيقي معروف بالقيمة وبالإنتاج، ودور النشر الخاصة لعبت دورها سلبيا كبيرا في الانحطاط بالأدب، بنشرها ما لا يستحق النشر.

الصحافة الورقية بخير وستظل.. ومن يتحدث على زوالها واهم

- ننتقل إلى ملحق الجمعة وتجربتك به؟

منذ أن كلفني رئيس تحرير الأهرام بالإشراف على ملحق الجمعة، كان لدي تحدٍ وعهد أوليته اهتماما ووضعته أمامي، ألا وهو أن الصحافة الورقية موجودة وقوية وستظل، لكني كنت مُصرًا أن أثبت ذلك بشكل عملي، والملحق أثبت ذلك الحمد لله، لأن الصحافة ليس بها إقصاء، وطول عمرها تتسم بالعمق، لأن السوشيال ميديا قراءتها وهمية، القراءة الحقيقية هي قراءة الصحافة والكتاب، والورقية تحديدا ستظل دائما وأبدا، وعلينا أن نفتح الباب للجميع، بحثا عن المبدع الحقيقي والموضوع الحقيقي، الجرائد مؤثرة جدا ومستمرة، ولن تتأثر بكل النداءات المحبطة التي تدل على قصر نظر المرددين لها، والصحف الناجحة في العالم كله متواجدة وبقوة.

- ماذا عن الثقافة المصرية ومستقبلها؟

مصر بلد شديد العمق، والثقافة دائما وستظل بقدر هذا العمق، والثقافة المصرية طول الوقت بخير، مصر لا تخلو من المبدعين في كل مكان، كل ما نحتاجه هو تسليط الضوء على الإبداع الحقيقي في بلد متجذر الثقافة، الحضارة المصرية حضارة بناء كما قال توفيق الحكيم، هذا البلد يملك ثقافة قوية، مصر حتى في أشد أوقات ضعفها «قوية»، وتنتفض في لحظات لتسمو وترتفع وتعلو وتظل على شموخها الدائم.


مواضيع متعلقة