مسنون وجدوا الحب الغائب في دور الرعاية: «عرفنا معنى العيلة من تاني»

كتب:  منة الصياد وغادة شعبان

مسنون وجدوا الحب الغائب في دور الرعاية: «عرفنا معنى العيلة من تاني»

مسنون وجدوا الحب الغائب في دور الرعاية: «عرفنا معنى العيلة من تاني»

أجواء من الدفء الأسرى تستشعرها بمجرد دخولك إلى المكان، بعد عبور البوابة الرئيسية توجد حديقة صغيرة بها عدد من الأشجار والورود، وعلى مقربة منها يجلس مجموعة من الأشخاص المسنين فى مختلف مراحل العمر، يتبادلون أطراف الحديث فيما يخص ظروف الحياة، ويتشاركون الضحكات والابتسامات وكذلك لحظات الألم وغيرها من المشاعر المتباينة، وهم يتناولون المشروبات أو بعض الأطعمة الخفيفة للتسلية.

تضم الغرف مجموعة من الأشخاص من فئات مختلفة، قصدوا دار الرعاية والإيواء «معاً لإنقاذ إنسان» للبحث عن الأمان والونس والدفء الأسرى الذى فقدوه بعد تركهم منازلهم، ليجدوا أخيراً جانباً منه وسط أقرانهم بالمكان الكبير ذاته، ومن ثم باتت تلك الجدران الواسعة هى ملاذهم الآمن من الحياة بالخارج، يستيقظون ويقضون أفضل أوقاتهم بينها، ومع من ألفوا.

داخل الدار يستطيع كل شخص لجأ إليها للبحث عن الونس استشعار هذا المعنى والأحاسيس المرتبطة به، إذ تجمعهم لحظات الحب والعطف والود، وكذلك المشاركة فى الآلام قبل لحظات الفرح، باتوا عائلة واحدة ذات أعداد كبيرة، يأكلون معاً، ويتعلمون المهن المختلفة معاً، فهنا يختار كل منهم ما يسر خاطره، ويتعلمه ويحرص على ممارسته، ما بين ممارسة الهوايات أو تعلم شىء جديد.

«ماما صباح»: «بعيش في مؤسسة الإيواء كأني في بيتي.. بنفرح سوا ونحزن كلنا لو حد حصل له حاجة»

«ماما صباح» كما يحلو للمقيمين معها داخل المؤسسة مناداتها، واحدة ممن لجأن إلى الدار مبكراً بحثاً عمن يشاركها تفاصيل الحياة اليومية، بدلاً من العيش وحيدة دون أهل أو أصدقاء يسألون عنها، حتى باتت تشعر وكأنها داخل منزلها الحقيقى، وبين أخواتها وأفراد أسرتها الأصليين.

ومع مرور الوقت وجدت «ماما صباح» المقيمين فى الدار يمثلون كل شىء لها فى الحياة، كأنهم أسرة واحدة، «بقينا أسرة واحدة بنتطمن على بعض، بناكل ونشرب مع بعض، بنحزن سوا لو حد لا قدّر الله حصل له حاجة فينا، بقينا سوا فى كل حاجة، كأنى جوا بيتى وسط عيلتى، عشان كده قررت آجى هنا ولقيت الونس اللى كان نفسى فيه».

وإلى جانب الممارسات الطبيعية، يتلقى كل شخص كافة حقوقه التعليمية والعلاجية، فهنا كل فرد يخاف على من حوله، يجلسون معاً فى حلقات على مناضد مختلفة، يتسامرون ويضحكون ولا يحملون هماً: «بقينا سوا فى كل حاجة، مش بنغيب يوم أو لحظة عن بعض، حياتى كلها بقت هنا». لم يتخيل يوماً أنه سيلقى الونس بل وأيضاً رفيقة العُمر داخل المؤسسة، إذ جاء اختيار «صلاح. م» البالغ من العمر 55 عاماً فى الابتعاد عن منزله واللجوء إلى الدار موفقاً بعدما عاش لحظات الجو العائلى والأسرى داخل المكان، بل وجمعه القدر برفيقة حياته أيضاً، واستقرت حياته بصورة طبيعية: «جيت الدار بإرادتى، وعرفت يعنى إيه بيت وعيلة من تانى، واشتغلت سواق للمؤسسة، ولقيت شريكة عمرى واتجوزنا هنا».

«صلاح»: وجدت الونس وشريكة الحياة داخل الدار.. وحياتي استقرت بعد ما بلغت 50 سنة

عبّر «صلاح» عن سعادته البالغة بعدما وجد الونس وأدرك معنى هذه الكلمة البسيطة التى تحمل مشاعر دفء وحب كبير: «الونس بقى بالنسبة لى اللى بيكون فيه ناس بتسأل على بعضها وتطمن على بعضها بشكل مستمر، وفيه جو، فيه ناس رايحة جاية فيه ضحك فيه هزار، فيه زعل، كل حاجة بنلاقيها هنا مع بعض».

«لولا» آنسة سبعينية: «صحباتي في الدار هما أهلي وناسي.. وبلاقي نفسي معاهم وهكمّل حياتي وسطهم»

داخل إحدى دور رعاية المسنات، تعيش الآنسة السبعينية زينب أو «لولا» كما تناديها النزيلات والمشرفات، ووالدتها التى عاشت معها داخل الدار لأكثر من 12 عاماً، لتتركها وحيدة عن عمر تخطى التسعين عاماً بعد معاناة مع الأمراض المزمنة، لتُكمل الابنة الحياة فى الدار حتى تجد الونس وتستأنس بمن حولها.

رغم تخطى «لولا» عامها السبعين فإنها لا تزال تحتفظ بجمالها رغم التجاعيد التى غطت ملامح وجهها ناصع البياض، والعيون الغائرة بلون البحر والسماء الزرقاء، واليدين المرتجفتين اللتين أنهكهما العمر والشقاء والعمل كخادمة داخل البيوت رفقة والدتها المتوفاة، فضلاً عن فم بلا أسنان وشعر اعتلاه المشيب، وضحكاتها التى تغمر المحيطين بها كأنها لا تزال صبية بعمر العشرين.

عاشت الأم والابنة حياة صعبة عنوانها الوحدة، إذ توفيت شقيقة «لولا» وهى لم تُكمل عامها الأول، لتخرج مع والدتها لتعمل خادمة فى البيوت حتى توفر قوت يومها، رفضت مئات الرجال الذين تقدموا لخطبتها والزواج منها حتى لا تترك أمها بمفردها لشدة تعلقها بها، حتى رافقتها للعيش بدار المسنات بعدما تقدمتا فى العمر.

داخل غرفة مشتركة تعيش «لولا» مع سيدة تكبرها بالعمر تركها أبناؤها داخل تلك الدار، حتى تستأنس بمن حولها فى أرذل العمر، تختلق أحاديث من عمر فات وأحداثاً يومية مع من حولها، تتذكر لحظاتها، السيئة منها والمفرحة، تقول: «مفيش حد بيزورنى ولا أنا أعرف حد غير صحباتى فى الدار، هما أهلى وناسى بلاقى معاهم نفسى، عايشة الباقى من عمرى وسطهم، من بعد وفاة أمى وأنا ماليش حد، لما حد بيزورهم ببقى نفسى يكون ليا أهل يسألوا عليا، بعتبر ولادهم كإنهم ولادى اللى ماخلفتهمش، بسلى نفسى وبساعد فى النظافة والطبخ، بقضى يومى أتفرج على التليفزيون، بشوف الدنيا منه، وفيه بنات بيزورونى بين الوقت والتانى يطمنوا عليا».


مواضيع متعلقة