السيادة الوطنية.. تطبيق لا شعارات
«احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية» عبارة دبلوماسية شهيرة تُصدع رؤوسنا منذ عقود وفترات زمنية كبيرة، دون أن نجد لها صدى على أرض الواقع، وقد وجدت نفسى مشدوداً للكتابة فى هذا الشأن لما تتعرض له مصر فى الآونة الأخيرة من أكمنة وفخاخ دولية الهدف منها فقط كسر الإرادة المصرية والتدخل فى الشأن الداخلى لها، وقد كانت تلك العبارة البراقة لا تستخدم إلا عند اللزوم ولا توظف إلا كذريعة للأنظمة التى تتخذها وسيلة للتحايل على الالتزامات الدولية والتنصل من الواجبات المفروضة عليها والواجب احترامها.
ولأن السيادة الوطنية هى المرآة التى تعكس صورة الدولة سواء داخلياً أو خارجياً فإننا نعرض للمفاهيم التى تستند إليها وترسخ لها، خاصة السيادة بمفهومها السياسى المتعلق بخصائص الدولة كونه سمة من أهم سماتها وتتلازم بكل قوة مع مفهوم الاستقلال، فالدولة المستقلة هى الدولة السيدة، القادرة على ممارسة مظاهر سيادتها على الصعيدين الداخلى والخارجى بحرية ودون تدخل من أحد، كما أنها هى التى تُمكن الدولة من ممارسة صلاحيتها داخل الإقليم أو خارجه.
وهى التى تعطى الحق للدولة فى سن التشريعات الخاصة بها والتى تتناسب مع أفكارها والمعتقدات السائدة فيها والثقافة والعرف والظروف الاجتماعية والمعيشية الخاصة بها دون غيرها، كما أنها هى التى تكفل المساواة والعدل بين الدول بعضها البعض واستقلال قرارها السياسى دون تأثير.
وقد استقرت تلك المبادئ وأرست قواعدها معاهدة مونتافيديو الموقعة عام 1933 التى تضمنت تنظيماً دقيقاً لحقوق وواجبات الدول الموقعة عليها، والتى ظهرت جلية فى صياغة ميثاق الأمم المتحدة الموقع عام 1945 الذى حدد الأطر والمبادئ المنظمة لعلاقات تلك الدول الموقعة عليه.
فالسيادة التى تمارسها الدولة سواء كانت سياسية أو قانونية، داخلية كانت أو خارجية، إقليمية أو شخصية، سلبية كانت أم إيجابية إنما تستمدها من سيادة الأمة التى تشكل ذلك الكيان الاجتماعى داخل المنظومة الدولية وتلازمها دون انتقاص من أحد أو إملاءات من الغير عليها.
وقد ظهر مؤخراً قدرة الدولة المصرية على ممارسة حقوقها فى سيادتها على إقليمها بشكل ينبئ عن قوة حقيقية نابعة من أمة أرادت لنفسها أن تحيا حياة كريمة فى ظل مجتمع دولى توافق فيما بينه على كسر إرادتها والنيل من هيبتها وسيادتها.. ونذكر على سبيل المثال ما قامت به السلطات المصرية من منع الباحثة الأمريكية ميشيل دان التى تعمل بمؤسسة كارينجى من دخول مصر بعد أن حاولت اختبار الدولة المصرية فى التمسك بسيادتها الوطنية من عدمه وبعد أن قامت بالتردد على السفارة المصرية بواشنطن وقدمت طلب الحصول على تأشيرة دخول إلى أرض الوطن لغير أغراض السياحة، غير أنها ولسبب دفين تعلمه هى فقد قامت بسحب جواز سفرها من السفارة دون استكمال الإجراءات وقررت السفر إلى مصر رغم أنها تعلم جيداً أنها لا يحق لها دخول البلاد دون الحصول على تأشيرة الدخول للمنافذ المصرية إلا أنها ورغبة منها فى خلق أزمة دبلوماسية فقد وصلت مطار القاهرة فجأة لتضع السلطات المصرية فى مأزق واختبار حقيقى لاعتقادها أنها إذا نجحت تكون قد ورطت البلاد بدخولها عنوة وكسرت الإرادة المصرية وانتهكت حق الدولة فى سيادتها، وإذا مُنعت من الدخول سيتم المتاجرة بهذا المنع وتعلو الأصوات زاعمة أن الدولة المصرية تمنع حقوقية من دخول أراضيها.
وهنا كانت الدولة المصرية أمام خيارين إما أن تمارس سيادتها على أراضيها وأن تحترم القوانين المصرية المنظمة لمنح الأجنبى حق الدخول للمنافذ أو أن تغض الطرف وتخنع لطلب تلك الحقوقية وتخالف القوانين عند السماح لها بالدخول، وهنا تجلت الإرادة المصرية ومنعت تلك السيدة من الدخول وإعادتها إلى بلادها لمخالفتها القانون وعدم حصولها على التأشيرة اللازمة لذلك، وفى هذا النموذج فقد انتصرت الدولة لسيادتها ولاحترام قوانينها ونجحنا فى الاختبار بتوفيق الله وإرادة القائمين على الحكم.
وكان الاختبار الثانى ما قامت به سفارة إنجلترا مؤخراً من تعليق عملها فى القاهرة على خلفية وجود تهديدات أمنية لها، وقد حذا ذلك الحذو بعض السفارات الخاصة بدول أخرى.
ورغم عدم وضوح الأسباب الحقيقية لتلك القرارات فإن المعلن من الجانب المصرى من أن مسئولى السفارة طلبوا غلق الشوارع المحيطة بها لدواعٍ أمنية.
ورد الجانب المصرى بأن غلق الشوارع إنما هو كإجراء أمنى قد تم إيقافه تنفيذاً لحكم قضائى صادر عن محكمة القضاء الإدارى بالقاهرة قضى بفتح تلك الشوارع المغلقة لعدم مشروعية غلقها استناداً لما قدمه سكان ذلك الحى الراقى بمدينة القاهرة الكائن به السفارة، وهو الحكم الذى التزمت به أجهزة الدولة ونفذته فى حينه.
وكان من الواجب أن تعى تلك الدول التى اتخذت قرارها بتعليق العمل بسفاراتها أنها موجودة فى دولة تملك قرارها وتحترم أحكام قضائها وتحترم حقوق أفرادها ومواطنيها.
ما كان يصح لدولة بقدر ومكانة إنجلترا أن تطلب ما يخالف الأحكام القضائية أو تمنع تنفيذها، خاصة أننا تعلمنا من تلك الدولة صاحبة الحضارة العريقة ما يقدس أحكام القضاء إذ إن التاريخ يكتب لها أن إحدى مديرات المدارس الإنجليزية أقامت دعوى أمام القضاء البريطانى تطالب فيها بنقل أحد أهم المطارات القريب من المدرسة لأن أزيز الطائرات عند الإقلاع والهبوط يحدث صوتاً يزعج التلاميذ وقد قضت المحكمة البريطانية بنقل المطار، وبذلت الحكومة البريطانية جهوداً كثيفة لإيقاف تنفيذ الحكم دون جدوى، وعند عرض الأمر على رئيس الوزراء ونستون تشرشل ليوقف تنفيذ الحكم بما له من صلاحيات بدعوى أن نقل المطار سيضعف قدرة بريطانيا عن أداء رسالتها ضد العدو النازى وسوف يكلف الدولة مبالغ طائلة من جراء نقله فإن تشرشل رفض ذلك قائلاً:
«خير لنا أن تخسر بريطانيا الحرب ولا يقال إن بريطانيا لا تحترم أحكام قضائها».
لقد احترمت الحكومة المصرية قضاءها الذى حكم بفتح الشوارع المغلقة لقاطنى منطقة جاردن سيتى كما احترم الإنجليز قضاءهم ونقلوا أهم مطاراتهم من أجل راحة بعض تلاميذ إحدى المدارس.
وقد ظلت السفارة البريطانية مغلقة لمدة عشرة أيام عسى أن يرضخ المصريون لكنه كان اختباراً ثانياً نجحت فيه السيادة المصرية وحافظت على هيبتها واحترمت قضاءها.
وعندئذ قررت السفارة استعادة نشاطها وفتح أبوابها ومعاودة العمل بشكل منتظم ونجحت مصر ثانية فى امتحان ثانٍ وعسير.
وهنا أقرر أن صلابة الإرادة والإيمان بسلامة الموقف ومشروعيته والقدرة على اتخاذ القرار الصحيح والدفاع عنه ستؤدى حتماً إلى النجاح وسيزيد احترام الآخرين لك واحترامك أنت لذاتك.
هذه النماذج إنما تؤكد أننا نسير فى طريق يُعلى من قدر وشأن هذه الأمة لكن علينا أن نعى أننا مقبلون على اختبارات وامتحانات أصعب من سابقيها نأمل أن نكون مستعدين لاجتيازها بنجاح وأن نجعل التجارب السابقة نموذجاً للتمسك بالسيادة الوطنية سواء فى الداخل أو الخارج ولن نجنى إلا مزيداً من احترام الآخرين ما دام الحق سنداً لنا.
وللحديث بقية.. ما دام فى العمر بقية.