يا هوا .. الإسكندرية

جاء شهر يونيو، بدأ الكل يتحدث عنه وأمواجه التى تشد العيون ومياهه الزرقاء التى تجرى فيها الموجة ورا الموجة عايزة تطولها.. كلٌ يستعد بحماس للمصيف، لعل وعسى ينفض عن كاهله متاعب الدنيا، فإذا بى كالعادة أرجع بنظرى وخاطرى لثلاثين أربعين سنة فاتت وأتحسَّر على المصيف الذى «كان» أحلى من «نيس» و«كان» بفرنسا وغيرهما.. مصيف رائع نظيف منضبط مريح.. أيامه كانت أبسط من البساطة بلا عُقد ولا دراويش تتفنن فى تخريبه بالسهر للصبح فى كافيهات لها شنة ورنة، ولكن بلا روح، ولا تتجمل بنسائم روائح بساطة مصايف زمان.. كان لا يشغل بالنا فى الزمن الجميل السوىّ إلا البحر واللعب مع أمواجه الشقية التى تضحكنا أثناء مصارعتها ومراوغتها مصارعة ناعمة تجمع الأشقاء والأقارب فى حلقات تتميز بصفات غاية فى الثراء من حب وود ولعب وشقاوة صغار واهتمام كبار، وسعادتهم بجو البهجة أيام المصيف والإجازات.. أيام لا تنشغل بمظاهر كدابة مصطنعة متصنعة من ارتداء ملابس غالية، ومايوهات متنوعة من ماركات مشهورة.. هذا مايوه قطعة واحدة، وذاك قطعتان والثالث بوركينى غير البكينى، والرابع شرعى مثل الغطاسين.. تنوع مستجد أربك توحداً كان يميز الشارع المصرى والمجتمع المصرى صاحب حضارة السنين.. كان «هوا المصايف» زمان صحياً لم يتلوث بقيم طار منها الانضباط والبساطة المصرية.. «هوا» يحمل نسائم الود ويحلى أيامه.. فإذا بهوا الإسكندرية تعكَّر بهوا الساحل وتم إفساده بمفاهيم وقيم ورسميات وعقد تبحث عن المظاهر ولا ترضى ولا تكتفى باللمة الحلوة وبساطتها.. إنما تقتحم أيامه بقسوة المصاريف والصرف المبالغ فيه بلا رحمة ولا وعى بإمكانيات العائلة وظروفها.. إنما بلا مبالاة نجد شباباً وعيالاً يضغطون على الأسرة مادياً ولا يعيرون لتكاليف المصيف أى انتباه «بلا رحمة».

المبالغة فى الصرف سمة مصايف هذا الزمان.. بل هناك أسر تجدها فرصة للتسابق بالتباهى بعزوماتها المميزة! إنها المبالغة اللعينة التى أفسدت بساطة أيام هوا الإسكندرية.. نعم كان الفول والطعمية نجوم موائد أيامنا، ولا مانع من الفراخ المشوية والسمك والذى منه. ولكن معظم الأوقات وأحلاها كانت «لقمة» فلافل الإسكندرية وفول مطعم «محمد أحمد» الذى أُصر على زيارته حتى الآن.. مصايف زمان لم تشهد تحرشاً أبداً ولم نسمع بهذه الكلمة القبيحة ولم يسمح بوجودها أى مصرى أصيل! لم تصدمنا بلطجة ولا مناوشات بين الشباب.. الكل، غنى وفقير، يسمع موسيقى ويدير شرائط دياب وحليم وفرقة الـ«فور إم» و«المصريين» برقىّ وبهجة أغانيهم.. الشباب كان لا يهتم بماركات سيارات ولا سهرات فى خروجات للصبح.. سهر يضيع الوقت فى ثرثرة فارغة وركض مجنون وراء بهجة زائفة. والله الإنسان السوى يجد البهجة فى بساطة الحياة وليس فى تعقيدها.. ولهذا شدنى مقال لطاهر قابيل بعنوان «لمة العيلة» كتب فيه: «تذكرت شلة الشباب ونحن على شاطئ ميامى ونسير فى شوارع سيدى بشر ومحطة الرمل ونجلس بين أشجار المعمورة والمنتزه ونأكل السمك فى بحرى ونفترش الرمال فى سان استيفانو ونستمتع بمياه البحر ونختم يومنا وسط ضحكات من القلب بمشاهدة فيلم أو مسرحية». هنا أقف وأقول له لست وحدك كل مصر وشبابها وعائلاتها كانوا يستمتعون بما سبق وسردت.. ونزيد عليه الجيلاتى والرز باللبن من صابر.. وسماع الشرائط الحلوة لفنانى زمان بحلو كلماتهم.. تحت الشمس الجريئة ونستمتع بالضحكة البريئة والنسمة الرقيقة والموجة الشقية فى بحور الإسكندرية.. والله كانت أيام حلوة قوى ونستغرب مصيف الساحل الذى افتقد سحر مصيف زمان!

وأقول مثل جدتى: يا قلبى كتاكت ياما أنت شايف وساكت!