قزم على أكتاف عمالقة!
عندما سُئل إسحاق نيوتن عن قدرته على رؤية ما لا يراه الآخرون والوصول إلى قوانين لم يستطع غيره الوصول إليها، أجاب بمقولته الشهيرة «إن توصلتُ لشىء، فذلك لأنى أقف على أكتاف العمالقة»! ولعلك على الفور تقول إن فى هذه العبارة نوعاً من التواضع من جانب نيوتن، غير أن ذلك ليس كل الحكاية، فلقد حدد نيوتن بدقته العلمية المشهور بها المعيار الأول لحدوث أى تقدم، وهو «التراكم»، أو جهود الباحثين السابقين، فهذه الجهود، حتى ولو كانت بسيطة، وهذه المعارف، حتى ولو كانت متفرقة، وهذه النتائج، حتى ولو كانت متعارضة، يستطيع الباحث ذو البصيرة مثل نيوتن أن يجمعها فوق بعضها وأن يصنع منها هرماً أو ناطحة سحاب تمكّنه من الرؤية على المدى الواسع، وتمكّنه من استكشاف المقبل ورؤيته وليس فقط مجرد توقعه.. وكأن نيوتن يؤكد المعنى الذى أشار إليه الشاعر الإنجليزى المعروف «جورج هربرت» «قزم على أكتاف عملاق يرى أبعد من الاثنين».
فى البحوث العلمية فى جامعاتنا المصرية عبارة يحرص كل باحث على تضمينها فى مقدمة دراسته، وهى أن هناك ندرة فى الأبحاث العلمية المتعلقة ببحثه، وأن هناك قلة فى الدراسات المتعلقة به. وتكون النتيجة المنطقية المترتبة على هذه الجملة هى أنه «سامحونى» إن بدأت من الصفر، وسامحونى إن كانت نتائجى غير متسقة، وسامحونى إن كان بالبحث ضعف أو غير ذلك من الأعذار. والأهم.. سامحونى إن لم أتجاوز «الصفر» فى بحثى، ولم أصل إلى أى شىء ذى بال. والحقيقة أنه لا توجد «ندرة» فى أى مجال بحثى فى أيامنا هذه، بل على العكس، يعانى أى باحث من «وفرة» البحوث وكثرتها، بحيث يكون عليه مهمة «الانتقاء»، ومشقة «الاختيار»، وتعب البحث عن «نظرية» تجمع بين هذا الشتات، و«رؤية» توحّد كل هذه الآراء، وأسلوب جديد لقياس هذه الظواهر أو لقياس نتائجها.. ولكنها على أية حال مؤشر من مؤشرات «البدايات الصفرية» التى نحرص على التأكيد عليها، والتى تمنع دون حدوث أى تراكم حقيقى فى حياتنا.
يقولون، والعهدة على بعض كتب التاريخ، إن أجدادنا الفراعنة كانوا يؤمنون بهذه القاعدة أيضاً، فكلما جاء حاكم أو فرعون جديد أزال ما بناه غيره، وحطم ما شيده سلفه، حتى يبنى هو من جديد. فتاريخ الدولة يبدأ مع بداية حكم أى فرعون، وينتهى بنهايته.. وهكذا، نعيش فى دائرة مفرغة. لا توجد إضافات حقيقية فى حياتنا ولا يوجد مخزون تراكمى نعتمد عليه. نمشى على إنجازات من سبقونا «بأستيكة»، ونتفنن فى إيجاد الأستيكة المناسبة أكثر من تفننا فى إيجاد الأقلام التى نكتب بها، أو الأوراق التى نسطر عليها. المهم أن نمحو ما صنعه من جاء قبلنا.
فى بلاد العالم المختلفة توجد مدارس متعددة من الإدارة، منها الإدارة البيروقراطية، والإدارة العلمية، والإدارة بالأهداف، والإدارة على الطريقة اليابانية، وغيرها.. وكل منها تصلح لإدارة نشاط معين لتحقيق أقصى الطموحات المتصلة به. فى مصرنا الحبيبة يوجد نوع قديم وجديد من الإدارة يمكن تسميته «إدارة الغل والانتقام».. فى داخل كل منا غل لمن سبقوه من المديرين، وبين أى وزير حالى ومن سبقه من الوزراء «تار بايت» يجعل مهمته تنحصر فى محو آثار أى وزير، وتطبيق رؤيته الجديدة واستراتيجيته الجديدة بمجرد جلوسه على كرسى الوزارة.. فى مصرنا الحبيبة الوزارات والشركات ليست مؤسسات وظيفية لها توجهاتها المستقلة عمن يرأسها أو يديرها، وإنما هى «كيانات شخصية» تمشى على هوى كل من يرأسها أو يديرها، وكأنها تطبق المثل الشعبى «اللى يتجوز أمى أقول له يا عمى» على الفور.. والنتيجة دائماً أننا فى المربع رقم «1»، ولا نتجاوز فى كثير مما نقوم به دائرة البدايات الضعيفة الصفرية.
الوصول إلى الدور المائة لا بد له من المرور على الدور الأول.. غير أننا لا يجب أن ننزل إلى هذا الدور كلما نزل راكب من الأسانسير.. لا بد للأسانسير من استكمال الرحلة نحو الدور المائة حتى ولو نزل كثيرون قبل هذا الدور.. وإلا ظللنا العمر كله دون أن نصل إلى غايتنا. التراكم أيها السادة يرحمكم الله.