«أولاد حارتنا» تخلد ذكراه فى قوائم «الأكثر مبيعاً»

كتب: نورهان نصر الله وميسر ياسين

«أولاد حارتنا» تخلد ذكراه فى قوائم «الأكثر مبيعاً»

«أولاد حارتنا» تخلد ذكراه فى قوائم «الأكثر مبيعاً»

بمجرد أن تطأ قدماك أرض سور الأزبكية، تتسارع إليك أصوات البائعين هنا وهناك لتحاول أن تتلاشاها، لتطوف عيناك بالمكان حول تلك المكتبات الصغيرة المتلاصقة بحثاً عن عنوان رواية ما أو اسم كاتب تعشق قلمه، فتبحث على تلك الرفوف الخشبية البسيطة التى تحمل فوقها المئات من الأعمال المتراصة، معانقة أخشاب «الأرابيسك»، التى تشكل جسد عشرات المكتبات. ما بين الازدحام والأصوات المرتفعة، ووجوه تحوم حول المكتبات لتتصفح المعروضات فى هدوء، ومئات من الكتب ذات الطبعات الجديدة الزاهية التى تحمل أسماء كتاب شباب جدد، أو تلك التى دخلت نطاق «الأكثر مبيعاً»، تقف هى فريدة من نوعها يستوقفك بشدة اسمها ويثير بداخلك نوعاً من الشك، خاصة بعد أن تقرأ اسم صاحبها فتعتقد أنها لا تنتمى للكتب المحيطة بها، فهى الأقدم والأبرز، والشائكة التى تثير الريبة فى النفوس وعلامات الاستفهام حولها. «أولاد حارتنا» ليس مجرد عنوان لكاتب نوبل العتيد نجيب محفوظ، هى أكبر من ذلك بقليل بعد أن امتدت إلى محاولة قتل للأديب بعد اتهامه بالكفر والإلحاد، لتظل تلك الاتهامات تطارده هو والرواية بالرغم من مرور ما يقرب من عشرين عاماً، حيث اعتبرها البعض الأكثر تطرفاً فى إثارة حفيظة الأوساط المتدينة لأنها تكسر التابو الدينى، كما يرى البعض. وسط زحام الكتب التى صنع منها مقعداً له، وقف الشاب الثلاثينى يجيب بتعبيرات ونبرات تقترب من اللامبالاة بعد سؤاله عن الرواية: «أولاد حارتنا» حالة خاصة من بين كل أعمال محفوظ، فهى الرواية الأكثر قراءة من الشباب، لأن كلها والعياذ بالله كفر وإلحاد، وهو ده السبب اللى مخليها شغالة، الناس بتدوّر على الهَبَل والخرافات وتمشى وراها»، مؤكداً أن أكل العيش هو الدافع الوحيد وراء بيع هذه الرواية «المحرمة». فى منتصف السوق يقف الشاب العشرينى، يوسف، أمام مكتبته ينفض الغبار عن كنزه الثمين، فى انتظار زبون يشترى منه، كان حريصاً على وضع «أولاد حارتنا» فى مكان مميز تلمحه عين المشترى بمجرد وقوفه أو مروره من أمام المكتبة.. «أولاد حارتنا من أكتر الكتب اللى بتتباع فى سور الأزبكية لنجيب محفوظ»، يتذكر أنها قبل أربع سنوات كانت ممنوعة من البيع، وتحديداً قبل ثورة 25 يناير، مؤكداً «بعد الثورة الكتاب دا بدأ ينتشر ويزيد الطلب عليه». أضاف يوسف أن الكتاب يصل لكل واحد بطريقة مختلفة عن الآخر، وفقاً لعدد من العناصر التى تختلف باختلاف الثقافة والوعى، وفقاً لما قاله له أحد الكتاب الكبار عندما كان يشترى عدداً من الكتب بالسور. آيات الذكر الحكيم تنبعث من راديو داخل مكتبته، فى الوقت الذى تكتظ مكتبته بكتب دينية، يقاطع صوت القرآن زبون يسأله عن كتاب «موطأ مالك»، فيصف له عرفة مكان الكتاب من مكتبة قريبة منه، وفى منتصف الكتب الدينية يستقر «أولاد حارتنا»، بألوانه الشاذة عن مجلدات الكتب الإسلامية، فيقول عن الكتاب: «70% من اللى بييجى بيسأل عن كتب نجيب محفوظ بيبقى عايز كتاب «أولاد حارتنا» ثم «الحرافيش».. هى من أحسن روايات نجيب محفوظ»، يلاحظ عرفة أن الإقبال على هذه الرواية يرجع إلى أنها كانت ممنوعة من البيع قبل ثورة يناير. «لسه ماقريتش «أولاد حارتنا» لكن أول ما جيت مصر اشتريته وهقراه قريب» كلمات بدأ بها محمد كلامه، حيث بدا بلون أبنوسى لامع يختلط بملامح تنبئ عن نفسها ببراعة، ولهجة أقرب إلى السودانية، وهو يحمل فى يده نسخة من رواية محفوظ، بعد أن اشتراها بناء على نصيحة صديقه، لأن الكتاب ممنوع فى السودان، فيقول «مش باحب أقيّم أى كتاب غير لما أقراه.. أنا سمعت إن فيه إلحاد لكن مش هاحكم عليه غير بعد ما أقراه». بعيداً عن ضجيج سور الأزبكية، وفى مكان أقل ازدحاماً بالكتب والمارة، يجلس «عادل» أمام كتبه المتراصة بنظام، فى وسط البلد أمام كافيه «الأمريكين»، يقرأ فى أحد الكتب، فى الوقت الذى يراقب فيه زبائنه التى تقلب فى الكتب بحثاً عن ضالتهم: «قرأت «أولاد حارتنا»، نجيب محفوظ اهتم فيها بالفلسفة أكتر من القصة، وهى تستحق الجدل اللى ثار حواليها»، فى الوقت الذى تختفى فيه روايات نجيب محفوظ كلها من معروضاته، غير هذه الرواية.. «الطلب على «أولاد حارتنا» من الناس كتير، أكتر من باقى رواياته، عشان كدا أنا معنديش غيرها لنجيب محفوظ». «هى بالفعل أكتر كتب نجيب محفوظ اللى بيقراها الشباب دلوقتى.. يمكن عشان كانت ممنوعة، يمكن عشان اللى بتقدمه، بالرغم من أنها مش أقوى أعماله»، بلهجة واثقة ونبرات واضحة قالها الرجل الخمسينى المسئول عن إحدى المكتبات المهمة بمنطقة المعادى، مضيفاً أن التمرد عند الشباب هو الدافع القوى لبحثهم عن كل ما هو ممنوع لإعادة اكتشافه بعيداً عن أى سلطة حتى لو كانت آراء سابقة. وعلى الجانب الآخر ترى رنا، طالبة فنون جميلة، أن سر شهرة الرواية يقبع وراء المثل القائل «كل ممنوع مرغوب»، فتبدأ فى الحديث وهى تغير من وضع مجموعة روايات مختلفة تمسكها، «كل ما فى الأمر أن نجيب محفوظ فى روايته اعتمد على الرمزية وليس تشبيه الرسل كما يذهب البعض، الرواية الجيدة هى التى تحرك وعى الناس الراكد وتثير التأويلات والتفسيرات فى عقولهم فهنا تقبع عبقرية نجيب محفوظ»، وتابعت بلهجات قاسية: «الموضوع واخد أكبر من حجمه واللى بيشترى الرواية عشان عايز يلاقى إلحاد هيلاقى.. واللى عايزها عشان يشوف فن راقى هيلاقى». «آفة حارتنا النسيان» من أكثر الجمل العبقرية التى فاض بها نبع محفوظ على من حوله من خلال رواية أقل ما يقال عنها أنها تستحق «نوبل»، تابع أحمد عادل حديثه لتعترى تقاسيم وجهه البسيطة الحماسة العارمة للحديث عن كاتب يعشق قلمه، فيتساءل لماذا تسعى الناس دائماً للبحث عن نوايا الأديب والغوص داخلها؟ ويؤكد أن إبداع محفوظ لا يستطيع أحد اختزاله فى عمل دون الآخر بالرغم من أن الرواية «شائكة وتٌرهب ولكن فى النهاية تٌمتع». من نافذة أحد المقاهى الشبابية تجد الأستاذ حمدى رمضان، يجلس بأريحية يحمل بين يديه الجرنال اليومى يتصفح أوراقه، يتركه أحياناً ليرتشف من فنجان قهوة يقبع أمامه فى سكون، فالحديث عن «أولاد حارتنا» جذب أستاذ اللغة العربية ليقول «صعب على الناس أن تتقبل الرمزية الواضحة فى الرواية، لذلك فإنها تعتبر أعمالاً للنخبة كالفنون التشكيلية»، ويتذكر حمدى عشرين سنة مضت نجح فيها فى الحصول على نسخة سرية من الرواية التى كانت ممنوعة فى ذلك الوقت، فبدأ عنده الإصرار فى الحصول عليها عندما قال أحد أساتذته فى المدرسة إن سبب حصول نجيب محفوظ على نوبل دوناً عن مشاهير الأدباء، أن محفوظ كتب رواية يحكى فيها عن «أن الله تحول إلى رجل نزل الأرض يحاسب الناس».
غلاف الطبعة الأولى للرواية