لماذا يتحول كل شىء فى مصر إلى قضية أمن وطنى؟!

كل شىء فى مصر سرعان ما يتحول إلى قضية أمن وطنى تهدد استقرار البلاد، ابتداء من نظافة الشارع المملوء أوساخاً وقبحاً، إلى غلاء الأسعار الذى أدى إلى زيادة مخاطر الجوع وغياب الأمن الغذائى لفئات واسعة من الطبقات الوسطى والفقيرة، تعجز دخولها عن تحقيق الحد الأدنى لمطالب الغذاء، إلى انقطاع الكهرباء صيفاً لوجود هوة بين القدرة الإنتاجية وحجم الاستهلاك، إلى المناطق العشوائية التى تشكل حزاماً خطيراً يحاصر معظم المدن والحواضر المصرية، فضلاً عن أولويات أخرى مهمة تصدر لنا أسئلة عديدة صعبة، ماذا نفعل إزاء تنظيم جماعة الإخوان المسلمين الذى يعيش بين ظهرانينا؟! وهل نظل فى حالة خصام مع شباب الثورة من أجيال مصر الجديدة؟! نعجز عن سد الفجوة الواسعة بين الأبناء والآباء وبين الشباب والحكم، وكيف نحمى الجبهة الداخلية من مؤامرات عديدة تستهدف إرهابها وإحباطها وتفتيت وحدتها، من خلال افتعال مشاكل مصطنعة تقطع جسور الوفاق الوطنى بين أنصار ثورة 25 يناير وأنصار ثورة 30 يونيو، وتقتل فرص الأمل فى بزوغ غد جديد أحسن حالاً، فضلاً عن مشاكل استراتيجية كبرى تتعلق بقضية تطوير التعليم، وقضية استغلال النص الدينى باعتباره حمال أوجه للترويج لأفكار العنف والإرهاب! وقضايا أخرى عديدة تندرج ضمن الملف الأمنى، لا تعفى الإعلام من مسئوليته عن تردى الأوضاع، رغم أن الإعلام مهما تكن خطورة أدواته لا يستطيع أن يقبح جميلاً أو يجمل قبيحاً، لأن الأصل فى المشكلة واقع صعب لا يحقق الحد الأدنى من الرضا العام! وعلى كثرة الملفات المتعلقة بقضية الأمن الوطنى بسبب تراكم المشكلات عشرات الأعوام دون حلول جذرية تعالج أسبابها الحقيقية اكتفاء بمعالجة أعراضها وتسكينها، تظل هناك أولويات قصوى للأمن الوطنى يفرضها الظرف الزمنى الراهن الذى تمر به مصر، ويلزم جميع قواها الوطنية بلوغ حد أدنى من الوفاق الوطنى، يضمن وحدة وصمود الجبهة الداخلية فى مواجهة عمليات التآمر الداخلى والخارجى التى تستهدف تمزيقها، لأن وحدة الجبهة الداخلية هى أهم العناصر التى تمكن مصر من دحر الإرهاب على الساحة الأمنية، وتكبيده هزيمة قاسية تفقده القدرة على معاودة ممارسة العنف، وأظن أن أحداث 28 و29 نوفمبر الماضى التى وصلت فيها أحلام جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها إلى حد التخطيط لحشد تظاهرات مليونية تحتل ميادين رابعة والنهضة والتحرير لا تغادرها إلا بعد سقوط الوضع الراهن واعتلاء الجماعة سدة الحكم، باء جميعها بفشل ذريع على كل الساحات والمستويات، أكد هزال الجماعة وضعف قدراتها على الحشد والفعل، وأثبت أن قياداتها لا تزال تعيش فى عالم افتراضى غير موجود، لا تدرى أنها فقدت بالكامل قدرتها على التأثير على الشارع المصرى، الذى تعتقد أغلبيته أن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت بالفعل جماعة إرهابية انكشف وجهها القبيح، وبات واضحاً للجميع أن هدفها الأول والأخير هو الوثوب إلى السلطة حتى إن كانت الحرب الأهلية وإراقة دماء المصريين هى الثمن! بين الأولويات القصوى للملف الأمنى التى ينبغى التركيز عليها الآن، مصير 200 ألف هم أعضاء تنظيم جماعة الإخوان الذين يعيشون بيننا طلقاء لم يمسهم أى عقاب جماعى، ولا يتعرضون لأى إجراء احترازى، ولا يملك المجتمع بعد أى أدوات قياس اجتماعية تطمئننا إلى أنهم يمارسون حياتهم كمواطنين عاديين، أو تحذرنا من خطر محتمل يمكن أن يصيب البلاد نتيجة استمرار ارتباط هؤلاء بتنظيم الجماعة، ولهذا يبقى وجود هؤلاء دون متابعة مستمرة عن قرب، ودون محاولات جادة لفتح حوار معهم خطراً قوياً محتملاً على أمن مصر واستقرارها! ولا يقل أهمية عن ذلك ضرورة السعى إلى فتح حوار يستهدف التصالح مع كافة جماعات شباب الثورة، باستثناء الفوضويين دعاة تفكيك الدولة وهدمها، وأظن أن تخصيص قناة تليفزيونية لحوار جاد مع هذه المجموعات، يشارك فيه نخبة من المثقفين والسياسيين خارج برامج (التوك شو) يمكن أن تكون خطوة صحيحة على الطريق، بحيث يدعى إلى هذا الحوار وزراء الداخلية والثقافة والتعليم والأوقاف والاقتصاد، يمكن أن يفتتحه رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب ببرنامج يرد فيه على تساؤلات هذه المجموعات. وفى ضوء هذين التحديين الأساسيين اللذين ينبغى أن يحتلا أولوية قصوى حفاظاً على أمن مصر الوطنى، يمكن تشكيل هيئة وطنية للحوار والمصالحة، تضم رموزاً محترمة، وتفتح أبوابها للحوار مع كافة مجموعات الشباب شريطة نبذ العنف، وربما يكون مفيداً استصدار قرار بالإفراج عن بعض مجموعات شباب الثورة تعبيراً عن حسن نيات الدولة، والإعلان بصورة غير مباشرة عن عزم الحكومة على الإفراج عن كل من لم يتم توجيه أى اتهام له، متى تقدم ولى أمره بالتزام واضح بمسئوليته عن كل ما يقع من ابنه مستقبلاً، مع الحفاظ على سرية هذا الإجراء. ويدخل ضمن الأولويات القصوى للأمن الوطنى تحصين الجبهة الداخلية من مؤامرات عديدة تستهدف تفكيكها، وإنماء حالة الرضا العام فى المجتمع من خلال خطة قصيرة الأمد تحقق الأمن الغذائى للطبقات الفقيرة والمتوسطة، تركز على عدد من المشروعات التى تساعد على التوسع فى إنتاج الأسماك والدجاج وتحقيق الكفاية فى زراعة الفول، والالتزام ببرنامج محدد يرفع بنسب متصاعدة حد الكفاية فى إنتاج القمح، بما يساعد الطبقات الوسطى والفقيرة على تحقيق أمنهم الغذائى فى ظل غلاء الأسعار المتزايد، ولأن تحسين جودة حياة كل فئات الشعب المصرى سوف يتطلب زمناً وإنفاقاً ضخماً وخطط تنمية تستمر على مدار عشرة أعوام على الأقل، يحسن أن تركز الدولة على إجراءات سريعة وعاجلة تعزز آمال المصريين فى غد أفضل، وتجعلهم أكثر تفاؤلاً بمستقبل مشرق، وتؤكد لهم أن مصر تتغير على مدار اليوم والساعة، وأن ملامح مصر الجديدة تبزغ تحت ناظريهم، يرونها رؤية العين فى حسن استقبال الجمهور فى أقسام الشرطة والمستشفيات العامة ومديريات التعليم ومصالح الحكومة المرتبطة بالجماهير، ويلمسونها فى تحسين حالة النظافة العامة فى الشوارع والميادين حتى إن تتطلب الأمر العودة إلى النظام القديم (نظام الزبالين) بكل عناصره، إلى أن يتوافر نظام كفؤ جديد مع توفير ضمانات صحية للعاملين ومساحات نائية لإعادة زرائب الخنازير التى تستهلك المواد العضوية فى القمامة المبعثرة الآن على نواصى الشوارع! ويتوافق مع ذلك البدء فى تنفيذ مشروع قومى لردم كل الترع الجافة التى تحولت إلى بؤر لتوليد الفيروسات والأوبئة التى تأكل أكباد المصريين وكلاويهم، واستبدال مواسير أرضية بها، توفر مساحات كبيرة من الأراضى فى كل قرية تصلح لأن تكون أندية ريفية وملاعب رياضية، ويمكن بيعها كأراضى بناء تغطى جزءاً من تكاليف هذا المشروع الضخم. وتبقى قضية تطوير التعليم مشكلة المشاكل وأم القضايا التى تتطلب نسف كل البرامج التربوبة والتعليمية لتلاميذ التعليم العام حتى المرحلة الثانوية، خاصة المتعلقة بدروس الدين والتاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية، واستبدال برامج حديثة لهذه المواد بها، تساعد أجيال مصر الجديدة على حسن استخدام عقلها، وتمكنها من التمييز بين الرؤى والأفكار، غثها وسمينها، والمفاضلة بين العلم والخرافة، وبين التدين والتطرف، وتعليمهم قبول الآخر والاحتكام إلى العقل والمنطق والأخذ بالنظرة العلمية، وحسن تأويل النص الدينى بما يعزز مصالح الوطن والعباد التى تدخل ضمن أول مقاصد الشريعة.