الآثار الاقتصادية لقانون الأحوال الشخصية

يغيب عن الكثيرين أن المؤسسات الاقتصادية الدولية مهتمة بتشريعات الأحوال الشخصية، وأن ثمة آثاراً اقتصادية لهذه التشريعات ينبغى وضعها فى الحسبان عند وضع القانون المنظم لمسائل الأسرة أو لمواد الأحوال الشخصية. وتوضيحاً لما سبق، نرى أنه من المناسب الإشارة إلى أن البنك الدولى يصدر بشكل سنوى تقريراً بعنوان «المرأة وأنشطة الأعمال والقانون» (Women، Business and the Law). وقد حظيت بفرصة المشاركة بالرأى فى نسخة هذا التقرير لسنة 2018م، التى صدرت فى التاسع والعشرين من مارس سنة 2018م. ورغم أن القائمين على إعداد التقرير قاموا مشكورين بتوجيه الدعوة لى للمشاركة بالرأى فى التقارير الصادرة عن السنوات اللاحقة على 2018م، فإننى لم أستطع المشاركة فيها بسبب ضيق الوقت. وقد شاءت المصادفة البحتة أن يتزامن صدور قرار وزير العدل بتشكيل لجنة لإعداد مشروع قانون للأحوال الشخصية مع بدء فريق عمل البنك الدولى المعنى بتقرير «المرأة وأنشطة الأعمال والقانون» إجراءاته الرامية إلى إصدار نسخة التقرير لسنة 2023م. ففى العاشر من يونيو الحالى، تلقيت عبر البريد الإلكترونى رسالة من فريق عمل البنك الدولى للمشاركة بالرأى فى التقرير المزمع إصداره سنة 2023م. كذلك يصدر البنك الدولى تقريراً عن «سهولة ممارسة الأعمال» (Doing Business)، الذى يقيس القوانين واللوائح التنظيمية التى تؤثر بشكل مباشر على الأعمال التجارية والاستثمارية.

وبعد هذه المقدمة الطويلة للتعريف بالتقارير التى تصدر عن البنك الدولى ذات الصلة بتعزيز البيئة التجارية والاستثمارية، فإن التساؤل قد يثور فى ذهن القارئ عن ماهية العلاقة بين قانون الأحوال الشخصية أو قانون الأسرة، وبين تعزيز البيئة الاستثمارية أو بيئة المال والأعمال. وفى الإجابة عن هذا التساؤل، تجدر الإشارة إلى أن منهجية تقرير سهولة ممارسة الأعمال تعتمد على تقييم بيئة الأعمال من خلال تقييم الإجراءات والتشريعات المعمول بها فى الدولة، ومنها قانون الأحوال الشخصية، حيث يتم تقييم الدولة فى محور بدء النشاط التجارى على حسب الوقت والإجراءات والتكاليف المعمول بها فى الدولة، للحصول على الرخصة التجارية. وفيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية، على وجه الخصوص، فإن تشريعات الزواج والطلاق فى الدول العربية تقرر سقوط نفقة الزوجة إذا خرجت من منزل الزوجية دون إذن زوجها. وقد يتطلب التشريع فى بعض الدول العربية موافقة الزوج على امتلاك زوجته منشأة أو مشروعاً تجارياً أو اقتصادياً. ومن ثم، وفى هذه الحالة، يتم اعتبار هذا الأمر نقطة سلبية باعتبارها تمثل عائقاً يتنافى مع معايير سهولة ممارسة الأعمال التجارية والاقتصادية، وذلك فيما يتعلق بالمرأة المتزوجة.

وفى ضوء ما سبق، يمكن القول إن الفقرتين الثالثة والرابعة من المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية المصرى رقم 25 لسنة 1920م يمكن أن تقعا تحت مجهر البنك الدولى فى هذا الشأن. إذ تنص المادة الأولى الفقرة الثالثة من القانون المشار إليه على أن «لا تجب النفقة للزوجة إذا ارتدت، أو امتنعت مختارة عن تسليم نفسها دون حق أو اضطرت إلى ذلك بسبب ليس من قبَل الزوج، أو خرجت دون إذن زوجها». وتنص الفقرة الرابعة من المادة ذاتها على أنه «لا يعتبر سبباً لسقوط نفقة الزوجة خروجها من مسكن الزوجية -دون إذن زوجها- فى الأحوال التى يباح فيها ذلك بحكم الشرع مما ورد فيه نص أو جرى به عرف أو قضت به ضرورة ولا خروجها للعمل المشروع ما لم يظهر أن استعمالها لهذا الحق المشروط مشوب بإساءة استعمال الحق أو منافٍ لمصلحة الأسرة وطلب منها الزوج الامتناع عنه».

وجدير بالذكر فى هذا الشأن أن الأحكام القانونية سالفة الذكر تقابل نص المادتين (71) و(72) من قانون الأحوال الشخصية الاتحادى لدولة الإمارات العربية المتحدة رقم (28) لسنة 2005م. وقد خضعت هاتان المادتان للتعديل مؤخراً، مرتين، وذلك بموجب المرسوم بقانون اتحادى رقم (8) لسنة 2019م، ثم بمقتضى المرسوم بقانون اتحادى رقم (5) لسنة 2020م. وقد حدث التعديل فى الحالتين، وذلك بناء على توصية الهيئة الاتحادية للتنافسية والإحصاء، استجابة لمتطلبات تحسين أداء الدولة فى محور بدء النشاط التجارى من تقرير أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولى. ووفقاً للتعديل الأخير للمادة الحادية والسبعين، التى تعدد حالات سقوط نفقة الزوجة، تم حذف الإشارة إلى حالة «امتناع الزوجة عن الانتقال إلى بيت الزوجية الشرعى دون عذر شرعى»، وكذا حالة «امتناع الزوجة عن السفر مع زوجها دون عذر شرعى»، مع الاستعاضة عن هاتين الحالتين بإضافة عبارة «إذا أخلت (أى الزوجة) بالتزاماتها الزوجية التى ينص عليها القانون». وفيما يتعلق بالمادة الثانية والسبعين، تم تعديلها بحيث لم يعد حكمها مقصوراً على الزوجة وحدها، وإنما غدا ممتداً لكلا الزوجين، الأمر الذى يبدو جلياً من مطالعة نص المادة فى ثوبها الجديد، الذى يجرى على النحو التالى: «لا يعتبر خروج الزوجين من البيت أو للعمل وفقاً للقانون أو الشرع أو العرف أو مقتضى الضرورة إخلالاً بالواجبات الزوجية، وعلى القاضى مراعاة مصلحة الأسرة فى كل ذلك».

بقى أن نشير أخيراً إلى أن هذا المقال لا يشكل دعوة للاستجابة بشكل مطلق لمتطلبات البنك الدولى، وإنما نود فقط القول إن العولمة أثرت على حدود السلطة التشريعية وعلى مضمون التشريع. وقد يكون من الملائم فى هذا الصدد التخلى عن بعض الصياغات الفجة التى نصادفها بشكل متكرر فى تشريعات الأحوال الشخصية العربية، بما يعنى ضرورة أن تكون صياغة هذه التشريعات مواكبة للغة العصر الذى نعيش فيه.