زيارة إلى مجلس «تعذيب» أهالى الشهداء والمصابين

زيارة إلى مجلس «تعذيب» أهالى الشهداء والمصابين
بوابة متسعة تطل على شارع بورسعيد الشهير، تجاور بوابة مستشفى أحمد ماهر التعليمى، تعلوها لافتة مكتوب عليها «المجلس القومى لرعاية أسر الشهداء والمصابين»، ممزوجة ببعض الكلمات الغاضبة، مثل: «دم بدم، رصاص برصاص»، و«المجلس القومى لتعذيب أسر الشهداء»، خلف البوابة الحديدية توجد استراحة بها مقاعد بلاستيكية، يستقبلك موظف خلف باب ضيق، ليتحقق من شخصية المترددين على المجلس، على يمين صالة المبنى الذى لا تزيد عدد أدواره على طابقين، يوجد مكتب الاستعلامات الخاص بأسر الشهداء والمصابين، داخل المكتب ذى الأثاث المتواضع جداً يجلس بعض الموظفين على الكراسى الخشبية وأمامهم مكاتب صغيرة عليها أجهزة كمبيوتر مدون عليها كل أسماء الشهداء والمصابين.
بصفة مستمرة يتردد آباء وأمهات الشهداء والمصابين أنفسهم على مكاتب الموظفين لإنهاء بعض الإجراءات المتعلقة بالحصول على التعويض المالى، أو الوظيفة التى أقرها المجلس العسكرى أو طلب العلاج على نفقة المجلس، ما يقرب من 150 فرداً يترددون يومياً على المجلس، وهو عدد قليل إذا ما قورن بالمترددين قبل عامين أو ثلاثة، حسب وصف إبراهيم عبدالفتاح مدير مكتب الاستعلام بالمجلس، الذى أضاف قائلاً: «سجّلنا أكثر من 6 آلاف مصاب، إضافة إلى 823 شهيداً، ولم يتسنَ لكل المصابين الحصول على الخدمات والتعويضات، بسبب عدم استيفاء الأوراق المطلوبة، وهى أصل التقرير الطبى ومحضر الشرطة، وتحقيقات النيابة، وتقرير الطب الشرعى، وشهادة النيابة العامة التى تفيد بأنه من المتظاهرين، هذه الأوراق ليس من الصعب استخراجها وغير معقّدة لأنها تضمن عدم حصول غير المستحقين على حقوق المصابين والشهداء، وعانينا منذ عامين من كثرة المترددين الذين يحاولون تسجيل أنفسهم فى صفوف مصابى الثورة، آخرهم سيدة حضرت اليوم وكانت مصابة فى أحد الأفراح، وتحقيقات النيابة كشفت ادعاءها».[FirstQuote]
يتوقف «عبدالفتاح»، عن الكلام، عندما حضر والد أحد الشهداء، شرح له الأوراق المطلوبة، ثم أكمل حديثه: «عُين حوالى 5 آلاف من مصابى ثورة 25 يناير، وأحداث محمد محمود الأولى والثانية، ومجلس الوزراء، وماسبيرو، فى الجهاز الإدارى للدولة بموجب قانون 47 لسنة 2012، كما صُرف مبلغ مادى قيمته 15 ألف جنيه للمصابين الذين أصيبوا بنسبة عجز، و5 آلاف جنيه للمصابين العاديين الذين لم يصابوا بأى نسب عجز، أما أسرة كل شهيد فحصلت على 100 ألف جنيه، بجانب معاش شهرى قيمته حوالى 1500 جنيه».
ويتابع: «الرئيس عبدالفتاح السيسى وجّه المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء برعاية أسر الشهداء والمصابين، وتعويضهم بشكل مناسب، مما يكون له أثر طيب فى نفوسهم، لأنهم فى حاجه إلى رعاية الدولة، فبعد تعيين 5 آلاف مصاب فى أجهزة الدولة المختلفة شعروا بأن الدولة تعترف بهم وتعطيهم بعض حقوقهم، وأتوقع زيادة التعويضات والمعاشات والامتيازات لأسر الشهداء والمصابين بعد قرار (السيسى)».
ويقول خالد مصطفى بقسم الاستعلام: «أعمل هنا منذ عامين ونصف، وفى البداية كانت الأمور صعبة جداً بسبب كثرة المشاجرات والاعتداءات علينا، فلم يكن يمر يوم واحد دون حدوث اعتداء، على أحد الموظفين بسبب طبيعة الإجراءات الحكومية اللازمة لتقديم التعويضات والمعاشات، ممكن يكون له حق ويتأخر فى الحصول عليه، إجراءات الحكومة بتاخد وقت وبتتأخر شوية، ونحن ملزمون بتنفيذ ذلك، ففى إحدى المرات أمسك أحد الأشخاص بجركن بنزين، وهدد بإشعال النيران فى الموظفين، وآخر اعتدى على زميل لنا بالسكين، لكن الأمور أصبحت هادئة جداً الآن، ولا تكاد تحدث مشاجرة إلا مرة واحدة فى الشهر، نحن الآن لا نستقبل أى طلبات جديدة لتسجيل مصابين وشهداء جدد لثورة يناير بقرار من رئيس الوزراء الصادر منذ عدة شهور».[SecondImage]
بعد مرور دقائق قليلة، حضرت سيدة خمسينية ترتدى جلباباً أسود وفى يدها طفل صغير عمره لا يزيد على 5 سنوات إلى مكتب الاستعلام، لتطلب شهادة تقدمها إلى مجمع الجيزة الإدارى للحصول على شقة لابنها محمد باشا حسانين، أحد مصابى جمعة الغضب، بصوت متعب تقول نزيهة أحمد: «أصيب (محمد) ابنى فى ميدان التحرير بطلقة خرطوش فى عينه اليمنى والآن لا يرى بها مطلقاً، وأثرت على الأخرى أيضاً، (محمد) ربنا رزقه ببنتين توأم، تانى يوم أصيب، وسماهم خديجة وآسنات، كان بيدفع إيجار 500 جنيه كل شهر ولما اتأخر لمدة سنة فى دفع الإيجار، صاحب العمارة رمى عفشه فى الشارع وأخده وسابه فى مخزن فى شارع ناهيا ببولاق الدكرور، وقعد معايا فى شقتى الصغيرة ومراته قعدت عند أهلها، عشان عينه تعبانة، أنا اللى باجرى هنا وهنا عشان ألمّ الورق لحد ما تعبت، ربنا كرمنا والحكومة عينته فى مرور فيصل وبيقبض دلوقتى 900 جنيه، لكن ما يقدرش يأجر شقة، هيدفع لها كام وهياكل ويشرب بكام، بناته ومراته قاعدين معايا فى الشقة دلوقتى، هما وأولاد بنتى المطلقة، والشقة ضيقة جداً مساحتها لا تزيد على 60 متر فى شارع متفرع من شارع من ناهيا ببولاق الدكرور».
تذرف السيدة المتعبة بعض الدموع قبل أن تكمل: «بقالى سنتين باجرى على شقة ابنى، وكل يوم الموظفين بمجمع الجيزة يقولوا ليا تعالى بكرة وبعده، وتعالى اسألى على الورق كمان 10 أيام، ولحد الآن ماحصلش أى جديد، كل اللى باطلبه من ربنا شقة لابنى المصاب، وتسوية قرض البنك اللى كان واخده عشان جوازه من 5 سنين بقيمة 10 آلاف جنيه، سد منهم 8 آلاف، وكان باقى 2000 جنيه بس، لكن لما راح عشان يدفعهم، قالوا له عليك 22 ألف جنيه فوائد، تعب فيها وقعد فى البيت، (محمد) لما بيمشى شوية فى الحر، العرق بينزل فى عينه، مابيقدرش يشوف بيها خالص».
فى صالة المجلس القومى الرئيسية جلس عبدالحميد مخيمر مرجان يبلغ من العمر 50 سنة من سكان الزاوية الحمراء على أحد الكراسى البلاستيكية، وفى يده بعض الأوراق: «أصبت فى أحداث جمعة الغضب عندما نزلت ميدان عبدالمنعم رياض وقلت (عيش حرية وعدالة اجتماعية)، وقتها تلقيت ضرباً مبرحاً من جنود وضباط الأمن المركزى قبل انسحابهم، وعُولجت بالمستشفى الميدانى، وبعد تنحى (مبارك) وإنشاء المجلس القومى لأسر الشهداء والمصابين، تقدمت بأوراقى إليه للحصول على التعويض، وبالفعل حصلت على 15 ألف جنيه واستخرجت كارنيه مصابى الثورة، لكنى لم أستطع الحصول على معاش شهرى لرفض مدير النيابة إعطائى شهادة بأنى مصاب فى أحداث الثورة، قال لى مش هديهالك، تقدمت بالتماس وأكثر من طلب للنائب لعام لاستخراج الشهادة، لكن لم يحدث جديد رغم تأكيد تحقيقات النيابة التى حصلت على نسختين منها أننى من مصابى الثورة، لذلك أدرجت اسمى ضمن صفوف مصابى الثورة».
يضيف «مخيمر»: «حياتى كلها متوقفة على الحصول على شهادة النيابة، وهى إجراء ضرورى للحصول على المعاش بعد أن رفضت الوظيفة التى وفرها المجلس لى، لأن الإصابة تمنعنى من العمل وتؤثر على يدى وظهرى بشدة حتى الآن، أقيم فى غرفة واحدة أنا وأولادى الثلاثة وأدفع إيجاراً 150 جنيهاً فى الشهر، بمساعدة رؤساء المجلس بشكل ودى».
وعن حكم براءة «مبارك» فى تهمة قتل المتظاهرين، قال «مخيمر»: «(مبارك) مادخلش فى القضية أساساً، واحنا مش معانا فلوس زى (مبارك) ندفعها لـ(الديب)، نفوّض أمرنا لله، (مبارك) وعصابته حقهم الإعدام، (مبارك) مشى لكن قاعدته شغالة زى ما هى».
بجوار «مخيمر» كان يجلس عادل حسن عبدالفتاح، يبلغ من العمر 28 سنة يقيم فى البساتين ويقول: «أُصبت مرتين فى الأحداث، الأولى فى يناير والثانية فى أحداث محمد محمود الأولى، وسجل اسمى فى كشوف مصابى الثورة وحصلت على تعويض قيمته 15 ألف جنيه، وعينت فى الجهاز الإدارى للدولة فى حى البساتين بموجب قرار المجلس العسكرى، وأحصل على راتب شهرى قيمته 940 جنيهاً»، ويضيف: «حضرت إلى المجلس لاستكمال بعض الأوراق الخاصة بعلاجى من الإصابة التى لحقت بى فى ثورة يناير، لكنى لم أتمكن من إجراء العملية اللازمة لإزالة المسمار والأسلاك المعدنية من رجلى».
يتابع: «بقالى سنتين باجرى على الورق ومش عارف أعمل العملية فى رجلى، عندما أصبت فى محمد محمود عملت عملية أثرت على العملية الأولى، لو عملتها بره فى عيادة خاصة هتتكلف حوالى 15 ألف جنيه، وأنا بالكاد أستطيع توفير مصاريفى أنا وأمى، أنا لسه عازب وأبويا فى حكم المفقودين فى العراق مانعرفش عنه حاجة من سنة 1990، السفارة المصرية بلغتنا أنه عايش بعد ما أخبرتنا أنه مات».