تأدّبوا مع القضاء المصرى

تصدر الأحكام من المحاكم المصرية لكى يسخر منها الإخوان ويثورون عليها إذا كانت ضدهم، ويستهزئون بها إذا كانت تهدد مصالحهم، ويضربون بها عرض الحائط إذا كان تنفيذها سيصيبهم بسوء، فإذا كانت الأحكام صادرة لمصلحة الإخوان، فأهلاً وسهلاً بها، هى أحكام رائعة صدرت من قضاء مصرى شريف! وفى كلتا الحالتين ينطلق من جحور الإخوان مجموعة من المسوخ البشرية التى تطلق على نفسها «فقهاء دستوريين»، فيحللون الحرام ويحرمون الحلال، ويبيعون ذمتهم بدنانير قليلة، ويفعلون ذلك إما بلاهة منهم أو نفاقاً، وأرجو ألا يظن أحد أن كلمة «بلاهة» هى شتم للإخوان ومن يشدو ألحانهم النشاز، لأنها فى الحقيقة مدح، إذ لو اكتفيت بوصفهم بالبلاهة أكون قد أعملت حُسن النية، ولكن التوصيف الذى يُعتبر أكثر دقة هو أنهم سفراء جهنم، وخدم إبليس، بالإضافة إلى قيامهم بوظيفة مهمة جداً هى «ناضورجية» أمريكا فى المنطقة العربية. ولن يُفلح تلبيس إبليس الذى يمارسونه ليل نهار فى جعل الباطل صحيحاً، والصحيح باطلاً، فالصحيح هو أن القضاء المصرى هو الدرة الشامخة عبر تاريخنا الحديث، وسبق من قبل أيام نظام «مبارك» أن أصدر عشرات، بل مئات الأحكام لمصلحة جماعة الإخوان، سواء بخصوص حقهم فى خوض الانتخابات البرلمانية والنقابية والمحلية، أو حقهم فى أن يحاكموا أمام القضاء المدنى، وقتئذ لم يكن القضاء المصرى ينظر إلى لون الجماعة، أو عقيدتها السياسية، أو فكرها، ولكنه كان ينظر إلى أفرادها، بحسبهم ينتمون إلى الشعب المصرى وحسب. ولأن النفوس ذات هوى، لذلك فإن حكم «الجنايات» الصادر ببراءة «مبارك» ينبغى أن تثور عليه الجماعة المتهالكة، حتى لو كان هو أعدل حكم صادر من محكمة مصرية، ولأن الجماعة الآن جثة، لذلك يجب أن تستدعى الثوار! مصداقاً للطرفة التى ترويها المجلات الفكاهية عن ذلك الرجل المريض العجوز هش العظام الذى ضربه رجل فأوقعه على الأرض، فإذا به ينادى على شاب ثورى قائلاً: والنبى يا بنى تعالى ساعدنى أقف علشان أضرب الراجل ده، والشاب الثورى الساذج أصبح كالمعتاد على أهبة الاستعداد كى يسند جماعة الإخوان لتقف، فإذا وقفت طلبت منه أن ينحنى لتركبه، فإذا ركبته ساقته أمامها، كما تسوق البعير! ولكن السؤال الأهم هو على أى شىء كان يُحاكم «مبارك»؟ أقول لأولئك الذين صنعوا أجواء محاكمة «مبارك» عودوا إلى بيت الشعر الذى كتبه الإمام الشافعى «نعيب زماننا والعيب فينا وليس لزماننا عيب سوانا». لم يكن «مبارك» يا سادة يا كرام يُحاكم على الفساد، ولا على المبيدات المسرطنة، ولا فساد التعليم والصحة والتلوث، ولا على تزوير الانتخابات، ولا حتى على تصدير الغاز إلى إسرائيل! وما كان يمكن بأى حال من الأحوال أن يُحاكم «مبارك» على هذه الجرائم أمام محاكم مدنية، لماذا؟ لأن مسئولية «مبارك» هنا بالنسبة لهذه الجرائم هى مسئولية سياسية وليست مسئولية جنائية، وطالب الصف الأول من كلية الحقوق يدرس مبدأً اسمه «شخصية العقوبة» وهو يعنى أنه لا عقوبة إلا على من تداخل بشكل مباشر فى ارتكاب الجريمة، سواء كان فاعلاً أصلياً، أو شريكاً، أو مساهماً، أو محرّضاً، والشريعة الإسلامية تقرر أن «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ»، أى أن كل شخص مسئول جنائياً عن فعله المباشر لا فعل غيره، فإذا كانت الأفعال الجنائية صادرة من المرؤسين، فإن مسئولية الرئيس تكون سياسية، والقوانين المصرية لا تُحاسب جنائياً على المسئولية السياسية. إذن ما الذى حدث؟ ما حدث فى مصر لم يكن مجرد مظاهرة، ولكن حدثت ثورة، والثورات تحذف الواقع القديم، وتصنع واقعاً جديداً، الواقع القديم كانت له مفاهيمه وأفكاره وأطره، وكان له أشخاصه الذين صاغوا هذا الواقع فى الحياة العملية، ثم أصبح واقعهم بعد ذلك دستوراً يستمد مفاهيمه منهم ومن أفكارهم، وإذا قامت الثورة سقط الرئيس، وبسقوط الرئيس سقط النظام بأكمله، وبسقوط النظام سقط الدستور المستمد من واقع ما قبل الثورة، وأصبح الواقع الجديد هو ثورة حذفت القديم، ولكن فكر الشيطان فى إلغاء الشرعية الثورية، والعودة مرة أخرى إلى الشرعية الدستورية، ولكن كيف يتحقق ذلك؟ شرحت هذا تفصيلاً فى مقالى السابق، وعرفنا منه أن فكرة تعديل الدستور فى حقيقتها كانت فكرة شيطانية، فالدستور الساقط دستور سابق لا يرد عليه تعديل، الدستور الساقط عدم، والعدم يذهب دائماً أدراج الرياح، ولا يذهب إلى لجنة يرأسها الإخوانى طارق البشرى لتعديله، وهنا ضع نقطة لنبدأ من أول السطر. يا سادة يا كرام، جريمة تعديل دستور 1971 والاستفتاء عليه فى التاسع عشر من مارس عام 2011، كانت جريمة إلغاء الثورة، نعم يا سيد يا محترم، الثورة صدر قرار بإلغائها منذ هذا التاريخ، وقد اشترك فى ارتكاب هذه الجريمة قيادات الإخوان و«سليم العوا» وحزب الوسط واللواء عمر سليمان الله يرحمه، وأصبح مستحيلاً من ساعتها أن تتم محاكمة «مبارك» على جرائمه السياسية، لأن تعديل الدستور يعنى أن أى محاكمة لـ«مبارك» ورجال نظامه يجب أن تتم وفقاً للقانون والدستور، وأن الشرعية الثورية تم دفنها فى مقابر الإمام الشافعى، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ويترتب على هذا كله أن أى محاكمة لـ«مبارك» ستكون أمام محكمة قانون، لا محكمة ثورة، على أن تكون محاكمة على وقائع محددة قامت عليها أدلة مباشرة، لذلك لم تجد النيابة العامة التى تعرّضت لهجوم ضارٍ ليس له سابقة عبر تاريخها، لم تجد إلا أن تحيل «مبارك» أمام محكمة القانون بما توافر لديها من أشياء يمكن أن تشكل فى مجموعها دليلاً أو عدة أدلة، عن قتل الثوار أثناء الثورة، وعن سعر تصدير الغاز إلى إسرائيل وليس عن تصدير الغاز، لأن التصدير ليس جريمة، وعن فيلات حصل عليها من حسين سالم، ولكن وللحق كانت الأدلة ضعيفة متنافرة متضادة، ويعلم ذلك المحامى الشاب الذى يضع خطواته الأولى فى المحاماة، ويعلم كذلك أن القواعد المستقر عليها منذ أمد بعيد فى محكمة النقض هى أن «الشك أمام النيابة يُفسر ضد المتهم، ولكنه يُفسر أمام المحكمة لمصلحة المتهم»، فإذا ما وجدت النيابة العامة أن الأدلة فيها شك، فليس لها إلا أن تحيل المتهم إلى المحاكمة، فإذا ما وجد القاضى أن هذه الأدلة فيها شك قضى بالبراءة، ويحفظ صغار المحامين عبارة يدبّجون بها دائماً مرافعاتهم، فيقولون «الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال». معنى هذا أن «مبارك» لم يُحاكم على فساد عصره، وما كان يمكن أن يُحاكم على ذلك إلا أمام محكمة ثورة، ولكن فقهاء هذا الزمن الذين تصدّوا للعمل العام ومن محمد محسوب الإخوانى قالوا إن محاكمة «مبارك» أمام محكمة ثورة ستعطى للدول الأجنبية الحق فى عدم رد الأموال التى هرّبها «مبارك»، وكان هذا الكلام فى الحقيقة دجلاً، لا أصل له ضحكوا فيه على الشعب، الحقيقة أنهم تآمروا لكى يحصل «مبارك» فى المستقبل على براءة أمام محكمة قانون، فماذا فعلت القوى الثورية؟ جلست مع عمر سليمان لتشرب الشاى بالياسمين، والرجل رحمة الله عليه كان مخلصاً فى تخليص «مبارك» من تبعات الثورة، ووجد فى الإخوان ضالته، ووجد فى سطحية وطمع القوى الثورية حلمه المنشود، فكان السيناريو الذى رسمه هو والإخوان، وجلست القوى الثورية تصنع الائتلافات، وتدخل فى اشتباكات، وكل زعيم من زعماء هذه الائتلافات كان يظن أنه الحصان الرابح لقيادة مصر فى المستقبل، وما إن يخرج من مكتب عمر سليمان حتى يبتسم لكاميرات الصحف وقد شاعت فى ملامحه براءة الطفل بعد الرّىّ والبللِ. والآن يعيب بعضهم على محكمة الجنايات العظيمة! والعيب فيهم وليس هناك من عيب سواهم، ويتكرر السيناريو ليصيح الإخوان الذين كانوا يقولون إن «مبارك» أبوهم، وينذرون الشعب المصرى، ويوجهون سهامهم إلى صدورنا، ويا لحرقة القلب، يقف معهم من كنا نظنهم رجال مصر، هى الدنيا إذن، تلك الدنيا التى اختلط شأنها مع الدين، فإذا بالبعض يمارس الطموحات الشخصية ويسعى بالناب والحافر للمكاسب المالية والمجد والرفعة وعلو الشأن، مع شعارات «مصريتنا وطنيتنا وثوريتنا حماها الله»، ويقوم أبناء إبليس باستغلال هؤلاء، فيضعون كل ما سبق فى غلاف من الدين والانتصار للإسلام ولا مانع من قليل من «نعتذر ونعود إلى الصف الثورى»، ثم نضع هذه المقادير على شوربة الغليان الثورى، ليكون الناتج هو تحطيم الدولة المصرية.