شيرين أبوعاقلة.. أيقونة فلسطين

كانت فريدة فى كل شىء، فى جرأتها وصدقها وتقاريرها الصحفية الدقيقة وفى إقبالها على الموت، بل وفى جنازتها، تقاريرها الرائعة من قلب الحدث عرّفت الناس بفلسطين والقدس وبالجرائم الإسرائيلية، وموتها كذلك، بل وجنازتها، كلها كانت خدمة لفلسطين والقدس وتعرية للبطش الإسرائيلى.

صدقها انتقل من صوتها لموتها، لجنازتها، لم تخَف الاحتلال الإسرائيلى يوماً، ولكن الاحتلال كان يخاف كلماتها وصوتها، فهى صوت فلسطين والقدس فى آذان العالم، وهى عين الدنيا كلها على الوحشية الإسرائيلية. قضت سنوات عمرها تخدم هذه القضية بإخلاص فريد، لا تكاد ترى الابتسامة على وجهها وكيف تبتسم وهى تعيش يوماً بيوم مآسى الشعب الفلسطينى وترى الموت يحاصرهم ويحاصرها فى كل وقت.

تقول «شيرين» عن أيام تغطيتها للاجتياح الإسرائيلى الوحشى للضفة الغربية 2022: «لن أنسى حجم الدمار الذى أصابها ولا الشعور بأن الموت كان على مسافة قريبة منا، لم نكن نرى بيوتنا، كنا نحمل الكاميرات وننتقل عبر الحواجز والطرق الوعرة، كنا نبيت فى المستشفيات، أو عند أناس لا نعرفهم، ورغم كل هذا الخطر كنا نصر على مواصلة العمل». هذه حياة «شيرين»، التى استمرت قرابة ثلاثين عاماً على هذا المنوال وغطت فيها كل أحداث فلسطين وغزة والقدس الخطيرة، وكل الحروب الإسرائيلية على غزة أعوام 2009، 2021، 2013، و2014، كانت لا تهنأ بعيد ولا رمضان، كانت تحب القدس خاصة حباً جماً وتحزن لحصارها الخانق، القدس مدينة السلام تُذبح هكذا بيدى جلاد حوّلها إلى سجن كبير رغم شوق العالم كله إليها.

هى من مواليد القدس المتيمة والعاشقة لها، تنحدر أسرتها من بيت لحم، مولد السيد المسيح، عاشت مع كلمات فيروز عن زهرة المدائن وآلام المسيح وأمه العذراء «الطفل فى المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان، لأجل من تشرّدوا، لأجل أطفال بلا منازل، لأجل من دافع واستشهد فى المداخل، واستشهد السلام فى وطن السلام». رأت مأساة القدس رأى العين، رأت الغدر الإسرائيلى وتهويد القدس وطرد أهلها تباعاً وزرع المستوطنات الإسرائيلية فى كل مكان، كأنها عاشت حزن المسيح والعذراء وكل الأنبياء على القدس والمسجد الأقصى، كانت تتغلب دوماً على الخوف وهى تغطى أخطر الأحداث.

عاشت فى البلدة التى أحبتها، وفى العمل الذى عشقته، ماتت ودماؤها على أعين الكاميرا، فما كان لابنة القدس أن تغادر الدنيا فى غير الميدان والرسالة اللذين أنفقت فيهما سنوات عمرها. جنازة «شيرين» كانت فريدة، قتلت فى جنين، جنازتها من جنين إلى القدس، قطعت مسافة 140كم، تخرج كل بلدة لتودعها، هذه الجنازة كانت شاهداً جديداً على الوحشية والهمجية الإسرائيلية، هجوم مستمر على الجنازة من الإسرائيليين لانتزاع الأعلام الفلسطينية المرافقة للجنازة، مزّقوا أعلاماً فلسطينية كثيرة ليوضع غيرها، اقتحموا الجنازة وضربوا المشيعين، نعشها تعرّض للسقوط عدة مرات، فشل الجيش المدجّج بالسلاح فى مهمة نزع هذا الرمز الذى يخيفهم، فانتشرت الأعلام الفلسطينية فى القدس وربوع فلسطين المحتلة كلها، حتى قال بعض المسئولين الإسرائيليين فى تصريحات لهم: إننا اليوم فى موضع محرج. قتلوا «شيرين» بطريقة بشعة، رصاصة هشمت الجمجمة كاملة، جثتها بدون جمجمة، هذا الرصاص لا يوجد إلا عند القناصة الإسرائيليين، أنكرت إسرائيل فى البداية، ثم اضطرت للتراجع حتى قال رئيس الأركان: «ربما قتلت برصاص جندى إسرائيلى». الإسرائيليون يخافون منها حتى بعد وفاتها فجنود الاحتلال الإسرائيلى يدورون بين الحين والآخر حول قبرها، لا يريدون أن يكون قبرها مزاراً لمحبيها، ملايين الترحمات على «شيرين»، «صوت فلسطين الشجى الأبى» من كل الأديان والأعراق رغم الطمس الإعلامى الغربى الإسرائيلى. كنائس القدس ومساجدها كلها توحدت فى لحظة نادرة فى وادع «شيرين»، الشعب الفلسطينى، خاصة المقدسى، فى منتهى الرقى الدينى والوطنى والإنسانى، رغم أنه شعب محتل، جنازتها تمثل لحظة فارقة فى تاريخ النضال الفلسطينى، فقد ظهرت القدس موحّدة فى أبهى صورها، اليوم يحتضن جسدها الأرض المقدسة التى طالما دافعت عنها، سلام على «شيرين»، سلام على أهل فلسطين، سلام على القدس.