ممشى أهل مصر

نهر النيل هو الحياة لكل المصريين ويربطنا به رباط مقدس لا ينقطع أبداً، ونيل القاهرة الساهرة الساحرة حاجة تانية مختلفة، سواء ليلاً أو نهاراً، وله فى النفس هوى وعشق من نوع خاص، لهذا كانت سعادتنا كبيرة جداً بإنجاز ممشى أهل مصر، الذى تنفّذه وزارة الإسكان بهذا المستوى الرائع والمتميز فى كل تفاصيله وخدماته ومساحاته الخضراء وأعماله الفنية المعبّرة، ليصبح أحد أهم وأجمل المشروعات والمعالم السياحية الحديثة التى تليق بنهر النيل فى القاهرة، بعد أن حلمنا به كثيراً وتمنيناه جميعاً، ليتكامل مع المتاحف والمشروعات العملاقة وأعمال التطوير الأخرى التى تنفّذ كل يوم فى عاصمة مصر من أجل تجديد شبابها وعودة التنافسية السياحية للقاهرة برعاية كريمة ومباشرة من السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى.

فنحن جميعاً لدينا ذكريات جميلة مع هذا النهر الخالد فى أيام الشباب والحلم ونشتاق إليه ونحبه ونستمتع به جميعاً حتى فى المشيب دون أن نفكر فى أسباب أو ندرك هذا الجهد الكبير الذى تبذله الدولة والمسئولون من أجل الحفاظ على جمال النهر ليكون مصدر سعادة ومتعة وفخر لكل المواطنين على جميع المستويات دون تشويه، وهو ما أدركته وعشت فيه بعد أن تركت القوات المسلحة وعملت مديراً للمكتب الفنى لمحافظة القاهرة مع الدكتور عبدالرحيم شحاتة محافظ القاهرة فى بداية عام 1997 وكنت من أقرب الناس إليه طوال فترة عمله بالقاهرة وكان عاشقاً لنهر النيل ووضع على رأس أولوياته برنامجاً خاصاً للحفاظ على النهر وتطويره وبذل من أجل ذلك جهداً كبيراً جداً بكل حب وإخلاص وقام بإزالة الكثير من الإشغالات والتعديات من على النهر، وبدأها بإزالة مكتب نائب محافظ القاهرة للمنطقة الجنوبية، وكان ذلك إنذاراً للجميع بأنه لا أحد فوق القانون، وقد حدث صدام كبير مع الكثير من رجال المال والأعمال من أصحاب المصالح والمطاعم والمراكب العائمة ولم يتنازل عن تحرير النهر ومنع التعديات، وأزال المخالفات وكل ما يحجب الرؤية وغلق الملوثات على مدى سبع سنوات قضاها محافظاً للقاهرة أزال فيها الكثير وطور الكثير ولم يسمح لأحد بعمل أى أسوار أو ارتفاعات تحجب الرؤية على الكورنيش وكان حاسماً جداً فى ذلك ولم يقبل أى وساطة، وشاهدت بنفسى كيف كان يتعامل مع كل أصحاب المصالح على النهر من الأسماء الرنانة بكل حزم ولم يستثنِ أحداً من أجل الحفاظ على النهر وتم فى عهده تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع الريادى على النهر بجوار كوبرى قصر النيل وحديقة الأندلس وقام بتغيير السور الحجرى القديم المتهالك لكورنيش النيل وأقام مكانه السور الحديدى الحالى، ولهذا السور قصة جميلة أذكرها هنا ليعلمها الجميع.

فقد سافرت مرافقاً للدكتور عبدالرحيم شحاتة إلى روسيا لحضور أولمبياد موسكو بدعوة من عمدة موسكو عام 1998، وكان استقبالهم لنا أكثر من رائع، وكان الدكتور شحاتة حريصاً على أن نستفيد من الرحلة بأقصى درجات الاستفادة وننقل تجربة روسيا فى الإدارة المحلية وتأثير التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية الموجّهة أو المنضبطة على شكل الإدارة المحلية فى موسكو والآليات التى تمّت لزيادة موارد المحليات، وكيف نستفيد أيضاً من تجربتهم فى أعمال التطوير، التى تتم هناك، وهم يسابقون الزمن من أجل أن تعود روسيا إلى سابق عهدها قبل حل الاتحاد السوفيتى، وطبعاً كان من أهم أولويات الزيارة أيضاً دراسة تجربتهم فى تطوير العشوائيات، وكيف حافظوا على جمال نهر موسكو رغم أنه يقل فى القيمة والجمال كثيراً عن نهر النيل فى القاهرة، لذا طُلب منى التنسيق معهم، ليتضمن برنامج الزيارة رحلة نيلية فى نهر موسكو، وتم بالفعل ترتيب رحلة بحرية خاصة فى النهر، ولم يخفِ سعادته بما رأى، وهو يتحدث طول الرحلة عن نظافة وجمال نهر موسكو، وكيف أنه بدون أى إشغالات أو تعدّيات أو ملوثات على شاطئ النهر الذى تم تبطين جانبيه بالكامل مع دقة فى أماكن اختيار مراسى المراكب النيلية وجمال تنسيقها بما لا يحجب رؤية النهر وكأنه يطلب توثيق كل ذلك، فقلت له إن سور كورنيش نهر موسكو الحديدى يساعد أيضاً فى إظهار جمال النهر للمارة بشكل أفضل من السور الحجرى على نهر النيل فى القاهرة فطلب أن أقوم بتصوير كل ما شاهدناه، وقبل أن نغادر المرسى سألنى إن كنت قد صورت السور الحديدى من كل الزوايا، فقلت له طبعاً دى أول حاجة شدت انتباهى.

وبعد عودتنا إلى القاهرة، وفى أول يوم عمل طلب منى كل الصور الخاصة بسور نهر موسكو، فجهزتها، وفى اليوم التالى استدعى المسئولين عن الورش المركزية التابعة لهيئة نظافة وتجميل القاهرة وتم توزيع الصور عليهم وشرحنا لهم كيف كان جمال سور نهر موسكو ثم طلب منهم عمل نموذج للسور بنفس الشكل بالورش المركزية حتى يمكن دراسة إنشاء سور جديد لنهر النيل فى القاهرة يكون مشابهاً لسور نهر موسكو بدلاً من السور الحجرى المتهالك، فوعدوا بعمل نموذج بنفس الشكل الموجود فى الصور، يتم عرضه عليه فور الانتهاء منه، وبالفعل تم تنفيذ العينة وشاهدها بنفسه وأقرّها وأصدر تعليماته بالبدء فوراً فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجديد سور كورنيش القاهرة من شبرا حتى حلوان ليكون بنفس شكل ومواصفات سور نهر موسكو.

وهى معلومة لا يعرفها الكثيرون الآن رغم أنها معلومة مهمة تذكّرنا بالرابط الروحى بين مصر وروسيا، منذ أن شاركت معنا فى إنشاء السد العالى وساعدتنا فى تسليح الجيش بعد النكسة، بما أسهم فى نصر أكتوبر واستمر التعاون معهم حتى الآن فى تنفيذ محطة الضبعة النووية وتنمية محور قناة السويس وغيرها من المشروعات المشتركة

لذا كانت سعادتى كبيرة عند مشاهدتى ممشى أهل مصر الجميل، خاصة عندما وجدت أنهم احتفظوا بنفس السور المشابه لسور نهر موسكو، الذى نفّذه الدكتور عبدالرحيم شحاتة، هذا الرجل العظيم الوطنى المخلص الذى عمل محافظاً للفيوم والجيزة والقاهرة، ثم أصبح وزيراً للتنمية المحلية بعد ذلك، ومن قبلها كان رئيساً للمركز القومى للبحوث.

ولا يفوتنى أن أؤكد هنا أن المرحوم الدكتور عبدالرحيم شحاتة كان من أفضل المحافظين الذين رأيتهم فى حياتى، إن لم يكن أفضلهم بالفعل، بما لديه من رؤية وخبرة محلية كبيرة، وبما يملك من شخصية قوية تمتاز بالأمانة والإخلاص والوطنية والقدرة على العمل طوال اليوم بحب وتفانٍ بهدف وطنى واضح ينفّذه بكل دقة دون تعب أو كلل، وكان أستاذاً لنا جميعاً فى المحليات، وقد رحل عن عالمنا بعد أن ترك خلفه بصمات وإنجازات ناجحة يستحق عنها كل التقدير، وأن يتم تكريمه على الأقل بتسمية أحد الشوارع المهمة فى القاهرة أو الجيزة باسمه وهما المحافظتان اللتان أنجز فيهما أعمالاً كثيرة باقية حتى الآن.

حفظ الله مصر برجالها المخلصين فى كل زمان ومكان ووفّق الرئيس لتكون مصر فوق الجميع دائماً.

* الأمين العام للإدارة المحلية السابق

ومحافظ القليوبية والإسكندرية الأسبق