سيناريوهات الفصل الثانى من الحرب الروسية

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

يمكن اعتبار الاختبار الصاروخى الروسى الذى جرى الإعلان عنه، تزامناً مع بدء الحديث عن المرحلة الثانية من الحرب الدائرة فى أوكرانيا، له الكثير من الدلالات التى تنظر إليها موسكو باعتبارها ذات أهمية. فمساء الأربعاء الماضى ذكر الجيش الروسى أنه أجرى أول تجربة ناجحة على صاروخ باليستى عابر للقارات من طراز «سارمات»، وهو سلاح من جيل جديد ومداه بعيد جداً قادر على الوصول إلى أوروبا والولايات المتحدة، واستلزم تعليقاً احتفائياً خاصاً من الرئيس فلاديمير بوتين، حيث وصفه بالسلاح الفريد الذى سيُعزز القدرة العسكرية للقوات المسلحة الروسية، مؤكداً أنه سيضمن أمن روسيا فى مواجهة التهديدات الخارجية، والأهم -حسب حديثه- أنه سيدفع أولئك الذين يحاولون تهديد بلاده بخطاب متفلت وعدوانى، إلى التفكير مرتين!

السؤال البديهى الذى يتبادر سريعاً إلى الذهن بعد مطالعة كلمات الرئيس بوتين: هل روسيا تتعرّض الآن، أو ستواجه مستقبلاً، تهديدات خارجية؟ فالمشهد العام الثابت على وضعه منذ شهرين بالتمام، يوحى بغير ذلك، بل وعلى النقيض تماماً، فى ظل عشرات التأكيدات من الدول الغربية والولايات المتحدة والأوروبية وجميع أعضاء حلف الناتو، بأنهم لن ينخرطوا فى مواجهة مباشرة مع الجيش الروسى، لا على الأراضى الأوكرانية ولا فى غيرها. لهذا بدت تجربة الإطلاق موجّهة بالأساس للداخل الروسى القلق والمتململ من هذا الامتداد الزمنى للعملية «الخاصة»، كما سمّتها القيادات الروسية، وربما أيضاً للقادة والجنود الذين استخدموا بأيديهم الأسلحة الموجودة بحوزتهم، وخططوا ونفّذوا ما أحدثوه من تدمير هائل فى كثير من المدن الأوكرانية، قبل أن يصيب عدداً ليس بالقليل منهم قدر من الحيرة حول حصاد المرحلة الأولى، التى أعلن عن تجاوزها لما بعدها دون الإمساك بمشهد انتصار أو إنجاز متماسك.

هؤلاء العسكريون الروس هم الأقرب إلى معاينة التشوش والتخبّط التى بدت عليه خطة العملية العسكرية، ومنهم من كان ضحية خلل خطوط الإمداد، وأمام أوامر التراجع وإعادة الانتشار، وغيرهم جرى تبديلهم وتحميلهم المسئولية بطريقة غير مباشرة فى عملية تغيير القيادات التى جرت مؤخراً. فى الوقت الذى يطالعون فيه حديث السياسيين من موسكو، باعتبار «العملية العسكرية» أنجزت أهداف مرحلتها الأولى، وأنها تمضى كما خُطط لها، وهو تقدير ربما يحتاج إلى ترميم كبير بالنظر إلى محاور القتال وما جرى فيها، فضلاً عما استُحدث عليها من تغييرات. وهنا الجدير ذكره أن فعل الترميم ليس مقتصراً على الجانب الروسى وحده؛ فرئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية فى استعراضه للخطة الروسية بجلسة استماع أمام لجنة الاستخبارات فى الكونجرس الأمريكى يوم 8 مارس، أكد أن الخطة الروسية وُضعت كى تسيطر روسيا على العاصمة «كييف» خلال يومين من بدء الغزو. «وليام بيرنز» فى تلك الجلسة تحدث أمام أعضاء اللجنة، فى إطار معلوماتى يماثل ما كان يؤكده منفرداً قُبيل اندلاع الحرب أن ما تحت يديه يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، تتجهز لعملية غزو عسكرى شامل وهو ما تأكد صحته، رغم تكرار نفى تقديرات روسية وغربية لهذا السيناريو. كشف «بيرنز» عن أبرز حيثياته فى هذا الأمر بتنشيط ذاكرة أعضاء اللجنة، عبر إحالته لهم إلى دعوة الرئيس الروسى ثانى أيام الحرب 25 فبراير للجيش الأوكرانى بتسلم السلطة فى كييف، حيث سيكون حينها التفاوض أسهل وأكثر جدية من مجموعة «القوميين النازيين» كما وصفهم حينها، ووضع خططه على فرضية فرارهم السريع من العاصمة، خشية الوقوع فى قبضة الجيش الروسى.

لهذا ربما بدأت تتكشّف أول ملامح المرحلة الثانية من العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، وهو استبدال الانتشار الواسع الذى جرى فى المرحلة الأولى والقتال على عدة محاور فى وقت واحد، لصالح التركيز على منطقة بعينها تتمتع بأولوية استراتيجية وهى منطقة «الدونباس» وملحقاتها، باعتبارها تمثل محوراً واحداً وأهميتها الواضحة تجعلها قابلة للتسويق بأنها الهدف الرئيسى الأصلى للعملية العسكرية برمتها. نهاية الأسبوع الماضى ذكر الجنرال روستام مينيكايف، نائب قائد المنطقة العسكرية الوسطى بالجيش الروسى، لوكالة «إنترفاكس» الروسية؛ أن موسكو تخطّط للسيطرة الكاملة على الدونباس وجنوب أوكرانيا ضمن المرحلة الثانية من العملية العسكرية. وهذا من وجهة النظر الروسية يتيح لها إقامة ممر برى بين الدونباس فى الشرق الأوكرانى، وبين شبه جزيرة القرم بالجنوب. كما تبدو هناك خطة اكتملت مؤخراً، لها علاقة بأهمية الجنوب الأوكرانى الذى فى حال كثّفت القوات الروسية من جهدها العسكرى فيه، على غرار ما جرى فى «ماريوبول»، يمكن أن يُعزّز ذلك وصولها إلى منطقة «ترانسدنيستريا» الانفصالية الموالية لروسيا فى مولدوفا، والمتاخمة لأوكرانيا التى تخشى كييف من استخدامها نقطة انطلاق لشن هجمات جديدة ضدها عبر هذا المحور المستحدث، القادر على صناعة كماشة حول عنق المناطق الأهم بالنسبة لكييف. ففى وقت سابق كانت هناك إشارة أوكرانية قلقة من وجود قاعدة جوية فى المنطقة يتم إعدادها لاستقبال طائرات، وأن موسكو ستستخدمها لانطلاق قواتها المتجهة إلى أوكرانيا من المحور الجنوبى الغربى، وهو ما نفته وزارة الدفاع فى مولدوفا والسلطات فى ترانسدنيستريا.

المتوقع أن تبرز من داخل روسيا أصوات خلال المرحلة الثانية بغرض الترميم، إلى القول إن القتال الذى وقع فى المناطق الأخرى كان ضرورياً، لتحييد قوة المواجهة العسكرية أمام الاستيلاء الروسى على الشرق والجنوب الشرقى من أوكرانيا، وإن هذا الأمر كان مخططاً من البداية، ليكون إعادة توجيه الانتشار، ليس بسبب الإخفاق أو ما شابه. فى الوقت الذى ستكون فيه أمام القوات العسكرية الروسية مهمة تحقيق الحد الأدنى من الأهداف بأسرع ما يمكنها، بل وباستخدام حجم نيرانى وتسليحى هائل، خاصة أنه لم يعد أمام روسيا ما تخسره. فالمُضى قدماً سيكون لتثبيت استقلال جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك، حتى وإن أفضى ذلك إلى حد تقسيم أوكرانيا إلى منطقتى نفوذ غربى وروسى، بحيث يلحق الحزام الجنوبى من أوكرانيا وجميع المنطقة شرق الدنيبر، أو على الأقل القطاع الأكبر من الشرق بالجمهوريتين المستقلتين.