الجريمة فى الأمثال الشعبية (3)
استكمالاً لهذه السلسلة من المقالات عن «الجريمة فى الأمثال الشعبية»، نتطرق إلى أحد الأمثال الشعبية المتداولة كثيراً على الألسنة، وهو «حاميها حراميها». وتعود قصة هذا المثل إلى فترة الحكم العثمانى للدول العربية، حيث قرر ثلاثة من طالبى العلم السفر إلى بغداد فى ولاية العراق آنذاك، لزيارة ضريح أحد الأولياء الصالحين، وأخذوا معهم مالاً كثيراً للإنفاق على الرحلة، ولكنهم ضلوا الطريق وفجأة صادفهم شخص تبدو عليه علامات الطيبة والابتسامة تملأ وجهه ولا تفارق شفتيه ويجيد فن الكلام المعسول والحديث الطيب، للدرجة التى جعلتهم يتوهمون ويقتنعون بأن العناية الإلهية هى التى أرسلت هذا الشخص لهم، ولم يدر بخلد وفكر أحدهم لحظة واحدة أن هذا الرجل نصاب، إذ ليس من المعقول الشك فى رجل بهذه الصفات. وساروا جميعاً فى طريقهم بصحبة هذا الرجل، وبعد بضع ساعات اختفى الرجل وكأن الأرض قد انشقت وابتلعته بعد أن سرق كل ما لديهم من أموال، وظلوا يبحثون عنه حتى عثروا عليه، فحاول الهرب، ولكنه لسوء حظه كانت تمر أمامه فرقة من الجنود ألقت القبض عليه وتم ترحيله إلى الحاكم الذى استقبلهم بحفاوة وكان بشوشاً أيضاً، وسمع منهم القصة من الألف إلى الياء، فطلب من الجميع مغادرة الغرفة حتى يستجوب السارق على انفراد، وكان هناك رجل بغدادى طيب القلب يراقب ما يجرى حوله. وبعد حوالى ساعة، خرج الحاكم وهو يصيح فى وجه المجنى عليهم، مؤكداً لهم أنه لم يجد مع الرجل أى مسروقات، وخرج تاركاً المجلس. وهنا قال لهم البغدادى دعونى أتحدث مع اللص على انفراد، وبالفعل جلس معه وقال له لو قمت برد المال الحرام لأصحابه، سوف أعطيك قطعة ذهبية حلال، فأخبره أن الجنود أجبروه على عدم الاعتراف، كما أن الحاكم هدده بالإعدام لو قام برد المبلغ. فقال له البغدادى: حقاً «حاميها حراميها»، ولكن يا بنى «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق»، فخرج اللص ورد المبلغ إلى أصحابه، وصارت هذه هى قصة المثل الشعبى «حاميها حراميها» الذى تتناقله الأجيال حتى الآن.
ورغم أن صيغة المثل توحى باقتصار مدلوله على جرائم الأموال فحسب، فإن هذا المثل يمكن أن ينطبق كذلك على العديد من الجرائم غير المالية، حيث يكون الجانى هو نفسه الشخص المنوط به حماية المجنى عليه، كما يحدث حالياً حينما نسمع عن قيام الأب باغتصاب ابنته، بدلاً من أن يكون حامياً لها حريصاً على عفتها وشرفها وطهارتها.
وعلى كل حال، وسواء تعلق الأمر بجرائم الأموال أو بغيرها من الجرائم، فإن الجانى فى مثل هذه الأحوال يجد سهولة فى ارتكاب جريمته. وإزاء ذلك، وحيث إن مثل هذا الشخص يكون قد خان الأمانة المنوطة به، وأقدم على سرقة المال أو الاعتداء على المجنى عليه، بدلاً من توفير الحماية له، فقد تشدد القانون الجنائى فى مواجهته، مقرراً تشديد العقوبة بالنسبة له مقارنة بغيره من الجناة. فالقاعدة المستقرة فى السياسة التشريعية الجنائية هى أنه «كلما كان ارتكاب الجريمة سهلاً، تشدد المشرع فى عقاب مرتكبها». والتطبيقات على ذلك عديدة ومتعددة. فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بالاعتداء على المال العام، يشدد المشرع عقوبة اختلاس المال العام، بحيث يقرر للجانى عقوبة أشد من عقوبة الاستيلاء على المال العام. ففى حالة اختلاس المال العام، تكون العقوبة هى السجن المشدد (المادة 112 من قانون العقوبات)، بينما تكون عقوبة الاستيلاء على المال العام هى السجن المشدد أو السجن (المادة 113 من قانون العقوبات). وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن الفرض فى جريمة الاختلاس هو أن المال محل الجريمة موجود فى حيازة الجانى بسبب وظيفته.
وفيما يتعلق بجرائم الأموال أيضاً، تجدر الإشارة إلى أن المشرع يقرر لجريمة خيانة الأمانة عقوبة أشد من عقوبة السرقة. ففى جريمة خيانة الأمانة، تكون العقوبة هى الحبس الذى يمكن أن يصل إلى الحد الأقصى العام له، وهو ثلاث سنوات (المادة 341 من قانون العقوبات). أما فى جريمة السرقة البسيطة، فإن العقوبة هى الحبس مع الشغل مدة لا تتجاوز سنتين (المادة 318 من قانون العقوبات). وقد يرى البعض أن «الحبس مع الشغل» أشد من «الحبس البسيط»، ولو كان الحبس مع الشغل أقل مدة. والواقع أن الشغل هنا تقرر من وجهة نظرى فى مواجهة السارق، تعويداً له على العمل، وبحيث يسعى إلى كسب رزقه من عمل يده بعد الإفراج عنه، بدلاً من اللجوء إلى السرقة كمهنة له.
وفيما يتعلق بالجرائم غير المالية، يلاحظ أيضاً أن المشرع يشدد العقوبة إذا كان «حاميها حراميها». ففى جريمة الاغتصاب، على سبيل المثال، يعاقب الجانى المغتصب بالإعدام أو بالسجن المؤبد، بحيث يجوز للقاضى الاختيار بين هاتين العقوبتين (المادة 267 من قانون العقوبات، مستبدلة بالمرسوم بقانون رقم 11 لسنة 2011). ولكن، العقوبة تكون هى الإعدام وجوباً، إذا كان الفاعل من أصول المجنى عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها أو كان خادماً بالأجرة عندها أو عند من تقدم ذكرهم (المادة 267 من قانون العقوبات، مستبدلة بموجب المرسوم بقانون رقم 11 لسنة 2011م). والأمر ذاته ينطبق على جريمة هتك العرض، حيث يشدد المشرع عقاب الجانى إذا كان أحد الأشخاص السالف ذكرهم (المادة 268 من قانون العقوبات).