تجديد الخطاب الدينى.. رؤى وتحديات (2)
ذكرنا فى المقال الماضى أن من مظاهر التجديد: بناء نظرة إيجابية للعالم فى مواجهة الصدام والعنف والجمود، وإعلاء قيم النزاهة والصدق فى مواجهة الفساد والرشوة والإهمال والفوضى، وإعلاء قيم الجمال والذوق والحرية والتفكير وحرية الرأى أمام خطاب الحماس والشعبوية والقبح والتشتت والشماتة، وللتجديد تحديات ومعوقات متعددة.
المؤسسات الدينية الثلاث (الأزهر الشريف - وزارة الأوقاف - دار الإفتاء المصرية) عقدت عديد المؤتمرات فى السنوات الماضية تدور بصورة أو بأخرى حول قضية التجديد والتراث والمعاصرة، وكان محل اتفاق المؤتمرِين من المصريين وغير المصريين أن التجديد مطلب حيوى، وأن مقولة التجديد مقولة تراثية لا حداثية، وأن التراث لا يُؤخذ كله، ولا يُترك كله، بل يُنتَخب منه بمنهج علمى.
أثناء إعداد هذا المقال كان المؤتمر العلمى الدولى لكلية اللغة العربية بالقاهرة منعقداً، تحت عنوان: «التراث والحداثة فى اللغة والتاريخ: مثاقفة واختلاف»، برئاسة الأستاذ الدكتور غانم السعيد، عميد الكلية ورئيس المؤتمر، وقد لفت النظر اختيار العنوان، فهو اختيار واعٍ موفق يتماشى مع تاريخ الكلية (التى أفخر بتخرجى فيها)، وهى الكلية التى أبرزت للأمة قمماً من علماء وأدباء وفلاسفة، ترجم للكثيرين منهم العلامة الكبير الدكتور محمد رجب البيومى.
المتحدثون فى مؤتمر كلية اللغة العربية (وكيل الأزهر - وزير الأوقاف - مفتى الجمهورية - أمين مجمع البحوث - جامعة الأزهر.. إلخ)، لفت نظرهم العنوان (التراث والحداثة فى اللغة والتاريخ: مثاقفة واختلاف)، لأن العلاقة بين التراث والحداثة تمثل التحدى الأكبر الذى يواجه تجديد الخطاب الدينى، والمثقافة مصطلح متداول فى حقل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية منذ أربعينات القرن العشرين، ومعناه: «دراسة التطورات الناتجة عن اتصال ثقافتين تتأثّر وتُؤثِّر إحداهما فى الأخرى، نتيجة احتكاك بين من ينتمون إلى ثقافات مختلفة»، واليوم أصبحت المثقافة أمراً حتمياً تفرضه طبيعة الحياة، ومبتغاها التحاور لا الغلبة والذوبان، والحفاظ على (التراكم المعرفى)، والارتباط بالمناهج لا بالمسائل.
فهم البعض أن التقارب بين التراث والحداثة يؤدى بالضرورة إلى الذوبان، وهذا موقف تبناه بعض المتطرفين وبعض المتخوفين على الدين، فنتج عن ذلك الجمود، كما تبنى الملحدون والتغريبيون فكرة الجحود والمعاندة لكل التراث، فنتج عن ذلك هدم الثوابت، مع الوضع فى الاعتبار وجود إشكالية كبيرة حول تعريف «الثوابت». إذاً انطلقت طائفة من القرآن والسنة غير منفتحة على الواقع، ثم طائفة منفتحة على الواقع تنكر التراث، والطائفتان تأبى التقارب بين التراث والحداثة، أو بين الأصالة والمعاصرة، أو بين الثابت والمتغير، مع أن حاجتنا اليوم ماسة للبحث عن عناصر الالتقاء، وتوظيفها توظيفاً لا يمنع اختلاف الرؤى.
عطفاً على ما سبق فإن تحدى وصول أفكار مؤتمرات التجديد للأئمة والمدرسين والأساتذة والدكاترة والدعاة القائمين على مخاطبة الجماهير، بمعنى أننا أمام تحدٍ يتمثل فى تنزيل العلاقة بين التراث والحداثة، أو بين الأصالة والمعاصرة، إلى الحد الذى يستشعره المتلقى فى الجامعة والمسجد والإعلام والتجمعات الثقافية، ورؤية تجديد الخطاب الدينى واقعياً فى القضايا المعروضة، فمثلاً عند الحديث عن مقاصد العقائد، نشرح كيف أن أثر الإيمان بوحدانية الله يؤدى إلى (وحدانية المعايير) فى التعامل مع الناس فى البيع والشراء والأعمال وتوزيع الحقوق والحيادية والعدالة والمساواة، فيشعر المتلقى أن جديداً طرق أذنه عند الحديث عن العقائد، وقل مثل هذا فى العبادات والسيرة، وللحديث بقية.