أزمة القمح: رُب ضارة كاشفة!

لم يحدث أبداً أن قررت وزارة التموين فتح باب توريد القمح قبل 15 أبريل من كل عام، وهناك سنوات عديدة أصرت خلالها وزارة التموين على فتح باب التوريد فى أول شهر مايو. وقد ظلت هذه المواعيد معقولة حتى توسعت مصر فى زراعة القمح فى المناطق الصحراوية، التى ينضج القمح فيها قبل الدلتا بثلاثة أسابيع على الأقل.

ولأن المزارعين فى المناطق الجديدة كانوا وما زالوا من الفئة القليلة التى تستطيع الوصول إلى مراكز اتخاذ القرار وإلى وسائل الإعلام، فقد ظلوا لسنوات طويلة يطرقون كل الأبواب للمطالبة بفتح باب التوريد فى أول أبريل من كل عام، لأن محاصيلهم كانت تتعرض للهدر والرطوبة كلما طالت فترة تخزينها بعد الحصاد انتظاراً لفتح باب التوريد.

وخلال حكومتى الدكتور أحمد نظيف الأولى والثانية، فى الفترة من 2004 إلى 2011، بذل كبار منتجى القمح محاولات عديدة لإقناع وزارة التموين بفتح باب التوريد فى الأسبوع الأول من شهر أبريل، وآنذاك حاولت فهم سبب إصرار «التموين» على هذا التعنت الرهيب، وإصرار كبار المسئولين على إهدار جانب لا يُستهان به من الإنتاج المحلى فائق الجودة وتعريض أصحابه لصعوبات بالغة، قبل أن تتفضل الوزارة بقبول إنتاجهم على مضض. وبعد الاستماع إلى حجج كل الأطراف، انتهيت إلى أن مافيا استيراد الأقماح هى التى تفننت فى وضع هذه العقبات أمام أصحاب الإنتاج المحلى، لإجبارهم فى النهاية على بيع معظم محصولهم إلى شبكة التجار التى كانت تعمل لحساب المستوردين أيضاً.

وآنذاك كان مسئولو هيئة السلع التموينية يبتكرون حججاً سخيفة وكاذبة لإعاقة توريد الإنتاج المحلى من القمح، حتى يتمكن المستوردون من تضخيم فاتورة الاستيراد كل عام، ويحصدون المليارات من الموازنة العامة للدولة، وكانت أسخف الحجج التى سمعتها تتعلق بحكايات مختلفة عن تجار محليين يستوردون أقماحاً رديئة من الخارج ويحاولون توريدها للحكومة باعتبارها أقماحاً محلية، ثم يتحصلون على فارق الأسعار بين المستورد الرخيص والردىء وبين المحلى فائق الجودة والغالى.

وبعد سنوات اكتشفنا أن العكس هو الصحيح، فالأقماح المصرية ظلت عاجزة عن الوصول إلى صوامع الدولة، بينما تمكنت الأقماح المستوردة شديدة الرداءة من احتلال معظم طاقة الدولة على التخزين، وإنقاذاً للموقف كان المستوردون يشترون جانباً من الإنتاج المحلى فائق الجودة ويقومون بخلطه بالمستورد الردىء، ويتم توريده للدولة باعتباره مستورداً.

وما زلت أذكر المقالين اللذين كتبهما الراحل الكبير الأستاذ مكرم محمد أحمد فى نوفمبر عام 2005 بعموده اليومى «نقطة نور» فى «الأهرام» تحت عنوان «أين القمح؟». وقد انطلق الأستاذ مكرم فى مقاليه من المفارقة المذهلة بين ما أعلنه وزير الزراعة آنذاك -المهندس أحمد الليثى- عن تحقيق أكبر إنتاجية من القمح فى تاريخ مصر -حوالى 9 ملايين طن- وبين ما أعلنه وزير التموين عن توريد أقل من 2 مليون طن فقط من القمح المحلى، ويومها تساءل الأستاذ مكرم: أين ذهب القمح المصرى إذن؟ ولماذا ولصالح من يتم استبعاد 7 ملايين طن قمح مصرى من التوريد للدولة، سنضطر لاستيرادها بالعملة الصعبة؟!

وللأسف الشديد ضاعت تساؤلات الأستاذ مكرم وغيره من الكتّاب أدراج الرياح، بينما كان هناك خبراء يعرفون أن الأكاذيب اختلطت بالحقائق حتى أصبح الوصول للحقيقة أمراً بالغ الصعوبة، فالإنتاج آنذاك شهد انهياراً مخيفاً لأول مرة فى تاريخ مصر، ووزارة التموين كانت لا تملك عام 2005 طاقة تخزين تكفى لاستيعاب أكثر من 1.5 مليون طن قمح، وظلت تُسوِّف وتكذب وتتهم المزارعين بإخفاء القمح، فى الوقت الذى كان فيه ملايين الفلاحين ينامون أمام الشون عدة أيام انتظاراً لقبول محاصيلهم، وعادة كانوا يعودون بها بعد رفض الموظفين تسلمها، وفى طريق العودة كان التجار يتلقفونهم ويعرضون عليهم أسعاراً متدنية، فيبيعون محصولهم بأبخس الأسعار، وكانت هذه المحاصيل ذاتها تعرف طريقها إلى صوامع الحكومة على مدار العام، بعد خلطها بالمستورد الردىء، وتحقيق فوائض مالية مذهلة!

وبعد كل هذه السنوات جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتضعنا أمام أزمة كاشفة، فإذا بموعد فتح باب التوريد فى الأسبوع الأول من شهر أبريل يتطابق لأول مرة فى تاريخ مصر مع مواعيد نضج وحصاد القمح فى العديد من مناطق الزراعة الحديثة -مثل شرق البحيرات والعوينات وصعيد مصر ووادى النطرون وأراضى الساحل الشمالى- وإذا بكل حجج وسخافات البيروقراطية المتحالفة مع مافيا الاستيراد تتوارى تحت ضغط الأزمة الطارئة، فمصر التى تستورد 80٪ من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا لا تملك ترف الانصياع لهذه العصابة الإجرامية التى دأبت على إهدار محصول القمح الاستراتيجى لصالح فئة مسعورة لا تشبع أبداً.

بقيت فى قضية القمح مسألة فنية شديدة الأهمية كانت سبباً فى تدمير محصولنا المحلى لصالح الأقماح المستوردة، وهى مسألة تحتاج إلى تشكيل لجنة خبراء من علماء إنتاج وصناعة القمح للكشف عن أخطر إجراء تسبّب فى تضخيم فاتورة الاستيراد، وأعنى به هنا قرار رفض توريد القمح المصرى الذى تقل درجة نظافته عن 22.5 قيراط. ولم يعد سراً أن الأقماح المصرية التى تتراوح درجة نظافتها بين 18 و22 قيراطاً هى فى الحقيقة أكثر جودة وأفضل مذاقاً من كل الأقماح المستوردة، ورغم ذلك ابتكر شخص غامض هذا القرار الجهنمى ليستبعد أكثر من 70٪ من الإنتاج المحلى من التوريد للحكومة. وخلال الـ18 عاماً الماضية عانى المزارعون الأهوال بسبب رفض توريد أقماحهم بحجة أن درجة نظافتها تقل عن 22.5 قيراط، وأصبح من المعلوم لكل من له صلة بهذا الأمر، أن الموظفين المسئولين عن قبول القمح بإمكانهم إدخال أقماح شديدة الرداءة لصوامع الدولة بعد منحها أعلى درجة نظافة، وبإمكانهم رفض أفضل الأقماح بحجة أن درجة نظافتها لم تستوف الشروط المطلوبة، كما يعلم الجميع أن اختراع درجات النظافة وقصر التوريد على الأقماح التى تبدأ من درجة 22٫5 قيراط هو السبب الأول فى إهدار تعب وشقاء الفلاحين المصريين، وهو السبب الأول فى تكبيد ميزانية الدولة فاتورة سنوية ضخمة لسد احتياجات مصر من القمح وملء كروش المستوردين بالمال الحرام.

لهذا كله أطالب بإعادة النظر فى هذا الفرمان العجيب الذى أصدره شخص مريب يعمل لحساب المستوردين، ولا يعنيه إطلاقاً تدمير أهم محصول استراتيجى قومى وإرغام الفلاحين على طحنه واستخدامه كعلف للحيوانات والدواجن، بينما تتصارع كل دول العالم المنتجة للقمح على الفوز بحصة من الواردات المصرية بعد أن احتلت مصر رأس قائمة أكثر الدول استيراداً للقمح.