إصلاح التعليم.. ماذا يعنى؟

فى الأسبوع الماضى، كان الرئيس السيسى يتحدث عن بعض المشكلات التى نواجهها فى قطاعات العمل الوطنى المختلفة، حين تناول فى حديثه جانباً من إشكالية التعليم فى بلادنا، وهو الجانب الذى أرى أنه يحتاج إلى تسليط المزيد من الضوء عليه.

فرغم أن قضية إصلاح التعليم تُعد من القضايا التى تحظى بتركيز كبير فى أطر العمل الرسمية والشعبية، بسبب خطورتها الكبيرة وأهميتها الفائقة لمستقبل البلاد، فإن كثيرين لم يهتموا ببناء التوافق الرسمى والمجتمعى على صيغة الإصلاح، بل الأخطر من ذلك أن مفهوم الإصلاح نفسه يظل عُرضة للجدل والفهم المختلط والمزدوج بين قطاعات عديدة.

سيفسر ذلك ما نفهمه من حديث الرئيس عن خطورة أن يعتقد بعض أولياء الأمور أن نجاح أبنائهم فى الامتحانات وحصد الدرجات العالية من خلال الغش يمكن أن يكون إنجازاً يسوِّغ مطالبتهم بالحصول على فرص عمل، وما نفهمه أيضاً من حديث وزير التعليم عن خطورة الاستسلام لفكرة جمع الدرجات عبر الحفظ والتلقين من دون تعلم حقيقى يسهم فى التكوين المعرفى السليم للطلاب، ويؤهلهم لخوض غمار منافسة وعرة فى أسواق العمل الداخلية والخارجية.

والشاهد أن هناك مشكلة كبيرة تكمن فى الاتفاق النادر على «رداءة الحالة التعليمية الوطنية»، وضرورة إصلاح التعليم بشكل مُلح ومدروس، من دون أى اتفاق على صيغة الإصلاح ومفهومه والمخرجات المتوقعة منه.

سيمكن أن نُسمى تلك المشكلة بـ«أزمة مُدركات إصلاح التعليم»؛ وفى مثل تلك الأزمات يتفق الجميع على وجوب الإصلاح، لكن الاختلاف يقع حول ماهيته ومساره وآليات تنفيذه، حيث تتدخل المصالح والأهواء أحياناً فى تعيين تلك الماهية وتحديد مسارها العملى.

لقد شهدت مصر مطالبات واسعة بضرورة العمل على إصلاح التعليم وتطويره، منذ نهاية القرن الفائت، إلا أن تلك المطالبات تزايدت بقوة مع مطلع الألفية. وتركزت محفزات الدعوة إلى الإصلاح فى ضرورة تجاوز ما بات واضحاً من «تراجع القدرة التنافسية» لخريجى مؤسسات التعليم فى مصر، والشكوى من «الفجوة الآخذة فى الاتساع» بين هؤلاء الخريجين ومتطلبات أسواق العمل، و«عدم وجود الارتباط الكافى» بين القدرات البحثية ونظم الابتكار المرجوة، و«عدم العدالة فى توزيع التكاليف»، وتراجع القدرة على «ضبط الآثار الاجتماعية السلبية الناجمة عن غياب تكافؤ الفرص فى مجال التعليم».

وبموازاة ذلك، أظهرت الحكومات المصرية المتعاقبة اهتماماً بضرورة تركيز الإصلاح فى هذا المسار، وفى العام 2010 طلبت وزارة التعليم العالى من مؤسسات دولية، من بينها البنك الدولى، تقييماً لتجربة الإصلاح وتقويماً لأدائها.

ومن بين ما طالبت به الحكومة فى هذا الصدد: العمل على تعيين نقاط القوة والضعف فى نظام التعليم المصرى فى مقابل القدرة والأداء الدوليين، وقياس جودة مخرجات الخريجين وصلتها بالاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية، وسبل إحداث التوازن السليم بين التعليم الجامعى والتعليم والتدريب المهنيين، وقياس مدى ملاءمة فاعلية الانتقال من التعليم الثانوى إلى التعليم العالى.

لكن نتائج هذه الجهود لم تظهر على نحو ملائم حتى بدأت خطة التطوير الحالية التى أثارت انتقادات ولغطاً وتسببت فى هجمات حادة على وزير التعليم، وهى الهجمات التى أشار إليها الرئيس بمرارة فى حديثه المشار إليه سابقاً.

والشاهد أن نقطة الانطلاق فى خطة إصلاح يُراد لها النجاح فى العملية التعليمية الوطنية يجب أن تكون عبر الإحاطة بمُدركات عملية الإصلاح لدى الأطراف المعنية كلها من جانب، وبناء التوافق على غايات واضحة ومسار عملياتى مناسب يحظى بالتفهم والرضا من جانب آخر.

وتُعد دراسة المدركات من أهم مجالات البحث المعنية بخدمة صُناع القرار ومؤسسات التقييم وآليات الإصلاح، لكونها توفر رؤية واسعة وشاملة ودقيقة لتصورات واتجاهات الفاعلين وأصحاب المصلحة فى أى تغيير تنظيمى، بما يُمكّن من اتخاذ قرارات أكثر نجاعة، ويقلل احتمالات الممانعة لجهود الإصلاح.

ويسهم إدراك مُدركات القوى الفاعلة فى أى عملية تغيير فى تركيز السياسات، وضمان تبنيها، وسلاسة تنفيذها، والقدرة على تكريسها مؤسسياً، بما يضمن استدامتها.

وببساطة شديدة، فإن قطاعاً من أولياء الأمور، على سبيل المثال- وكما يظهر من الحوادث الصادمة المتعلقة بالغش والغش الجماعى- يدركون نجاح العملية التعليمية على أنه «حصول أبنائهم على درجات عالية تمكنهم من دخول كليات القمة»، بينما يرى قطاع آخر أن جودة العملية التعليمية تنحصر فى المجانية وتكافؤ الفرص، فيما يصر قطاع ثالث على أن تلك الجودة تتعلق بمدى القدرة على مواكبة المعايير السائدة فى أفضل النظم التعليمية العالمية.

ورغم أن الحكومة أعلنت بالفعل عن بعض إجراءات الإصلاح وآلياته، فإنها أخفقت فى تسويق خطتها وبناء التوافق المجتمعى بصددها، فضلاً عن اصطدامها بصعوبات عملية كبيرة خلال التنفيذ، بشكل ألقى بظلال قاتمة على الخطة بأكملها.

نريد أيضاً أن نوضح آلية توزيع تكاليف عملية الإصلاح، وكما نصر على أن تكون تلك الآلية عادلة ومتكافئة، نتفهم فى الوقت ذاته الحالة الاقتصادية العامة ومحدودية الموارد التى يمكن أن تُخصص لتفعيل عملية الإصلاح برمتها.

نحن فى حاجة ماسة لمعرفة مُدركات عملية إصلاح التعليم لدى جميع الأطراف المعنية، وإعداد خطة متكاملة مناسبة لإنجاز هذا الإصلاح، ثم شرحها للناس وبناء التوافق اللازم عليها، وهو الأمر الذى سيُمكننا من تخطى العوائق المادية والثقافية التى تحد من قدرتنا على إنجاز عملية إصلاح ناجحة.