«الوطن» تواصل نشر مذكرات الدكتور سعد الدين إبراهيم

«الوطن» تواصل نشر مذكرات الدكتور سعد الدين إبراهيم
«عفيفى» هو الذى اقترح فكرة المظاهرات المتعددة خارج «التحرير» لتشتيت الأمن
عمر عفيفى وضع خطة مواجهة الأمن فى «25 يناير».. وفى يوم الثورة اجتمعت داخل البيت البيض مع «أوباما» بحضور «هيلارى» و«بايدن» ورئيسى الأركان والمخابرات.. واندهشوا من «مبارك» ثالث الرؤساء حكماً طوال تاريخ مصر
فى الحلقة السابقة تحدث الدكتور سعد الدين إبراهيم عن علاقته بالشيخة موزة ولقائه بالشيخ حمد أمير قطر، قائلاً «كان مقالى الذى حمل عنوان: بيدنا لا بيد عمرو، سبباً فى دعوة تلقيتها من الشيخ حمد وزوجته الشيخة موزة، كما كشف أنه التقى الشيخة موزة مجدداً بعد ثورة 30 يونيو، وأبلغته وقتها أن قطر لا تستطيع السيطرة على الإخوان فى بلادها، لأنهم يسيطرون على قطاعات كثيرة فى الدولة، أبرزها الإعلام والتعليم». موضحاً أن مبادرة الصلح التى كان ينوى السعى فيها بين مصر وقطر حقيقية وشجعتها الشيخة موزة، ولكن أمام الرفض الإعلامى المصرى شعرت الدولة القطرية بالحرج.
كان يبدو أن عام 2007 هو عام لقاءاتى بشخصيات خلافية عربياً، وشرق أوسطى، وعالمياً، ففى يناير التقيت السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، فى لبنان، كما التقيت قيادات حماس فى فلسطين، وكانت هذه المرة الثانية التى أصطحب فيها طلابى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وباحثى مركز ابن خلدون فى رحلة ميدانية إلى الخطوط الأمامية للمواجهات السياسية المستعرة، فقد ذهبنا إلى فلسطين حيث كانت المعركة السياسية الأولى بين حركتى المقاومة الإسلامية حماس والتحرير الفلسطينية فتح، وقد حسمت لصالح الأولى على غير كل التوقعات، ودخلت حكومة حماس الفتية فى معركة أخرى مع العالم، حيث أصرت وقتها على التمسك بنفس الشعارات والممارسات التى دأبت عليها فى مرحلة الكفاح المسلح، بما فى ذلك رفض الاتفاقات الدولية التى كانت السلطة الفلسطينية فتح قد وقعتها، ومنها اتفاقية «أوسلو» عام 1993، التى انطوت على اعتراف متبادل، وعلى أساسها عادت فصائل المقاومة من الخارج فى تونس إلى الداخل الفلسطينى أى غزة والضفة، وعُقدت الانتخابات التشريعية الفلسطينية مرتين، وهى التى أوصلت حماس إلى أن تكون حكومة السلطة، وكذلك أعلنت حماس أنها ستستمر فى الكفاح المسلح ولن تلقى السلاح، وفى المقابل أعلنت الأطراف الدولية المانحة وهى الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة وكندا واليابان أنها ستتوقف عن مساعدة الحكومة الجديدة إلى أن تعترف بالاتفاقات التى كانت حكومة فتح السابقة قد وقعتها، بل وأعلن رئيس الوزراء الفلسطينى الجديد «محمود هنية» شعاره المشهور «لن نعترف حتى لو عشنا على الخبز والزعتر والزيتون».[SecondImage]
كان طلابى حينذاك يدرسون مادة عنوانها «الحركات الاجتماعية» حيث تقول إحدى النظريات إن الحركات الثورية أو الراديكالية التى تبدأ مسيرتها بالرفض والعنف تعتدل تدريجياً حينما تصل إلى السلطة، لذلك وجهوا إلىَّ السؤال المنطقى عما إذا كان ذلك سينطبق على حركة حماس؟ وحيث كنا حينها ما زلنا فى أوائل عام 2006 ولم يكن قد مر على انتخاب حماس إلا أسابيع قليلة فقد كانت إجابتى لهم وقتها «لا أستطيع أن أجزم بإجابة، حيث إن النظرية التى درسوها مستقاة من خبرة حركات اجتماعية غير عربية فى معظمها، خاصة من أوروبا وآسيا وأمريكيا اللاتينية»، وتحديت طلابى فى أن يتواصلوا هم مع حركة حماس وحكومتها الجديدة ويوجهوا لها نفس السؤال، وقبل طلابى التحدى وانتهت المراسلات بينهم وبين حكومة حماس بدعوة لى وللطلاب لزيارتهم فى فلسطين والحوار مع حكومة وبرلمان حماس وجهاً لوجه وهو ما تحقق فعلاً فى أبريل عام 2006.
أما بخصوص زيارتى لإسرائيل فلم تكن مبادرة من قبلى، بل كان الإسرائيليون يطلبون دائماً زيارة مركز ابن خلدون، وكانت دائماً ردودى بأنهم طالما لم يصلوا إلى حلول مع الفلسطينيين بشأن القضية الفلسطينية فلن أستطيع استقبالهم فى المركز، وبعد توقيع اتفاقية أوسلو كما ذكرت كرروا محاولاتهم مستخدمين الاتفاقية، وهنا أكدت لهم أن ذلك الأمر يستدعى سؤال الباحثين بالمركز الذين سيتقابلون معهم، وأيضا لأن الأمر لا يتعلق بى فقط بل يتعلق بإدارة المركز، وبالفعل عقدت اجتماعاً بالباحثين وعرضت عليهم الأمر وانقسمت آراؤهم إلى نصفين، النصف الأول رافض لاستقبالهم والنصف الآخر يقبل، وتلك الآراء انعكست على التصويت الذى أجريناه 3 مرات بين الحاضرين، وفى كل مرة كانت تتعادل الأصوات الرافضة والموافقة، وحينذاك كان ضمن الباحثين شاب فلسطينى الأب ومن أم مصرية اسمه «أشرف بيدس»، وطلب أن يتحدث فأذنت له بالحديث، فقال «الحقيقة أود أن أبلغ زملائى أننى فى الثلاث مرات صوّت بنعم، وإذا كان بعض الزملاء صوّت بلا مراعاة لشعورى فأنا أبلغكم بأننى أريد أن أشاهد هؤلاء الإسرائيليين رؤية العين على أن أشاهدهم من خلال صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات، وكلى أمل إذا جاء هؤلاء لزيارة «ابن خلدون» أن أذهب إلى فلسطين وأزور وأشاهد حيفا تلك البلدة التى ولد بها أبى والتى أحلم بها دائماً».[ThirdImage]
وبعد أن ألقى ذلك الشاب تلك الكلمة المؤثرة ظهر التصويت كله بالموافقة إلا واحداً كان لا يزال رافضاً وهو سليمان شفيق، ومن المعروف أن سليمان عضو فى حزب التجمع اليسارى الماركسى، وله موقف واضح ومعلن من إسرائيل غير قابل للتراجع، واحترمنا جميعاً رأيه وأيضاً تم تطبيق رأى الأغلبية، وبالفعل اتصل بى الإسرائيليون وأطلعتهم على نتيجة التصويت وحددت لهم موعداً لاستقبالهم، وكان لهم رجاء وهو إذا كنا سنعد لهم غداء فليكن مصرياً شعبياً مائة فى المائة «فول وطعمية وبطاطس وطرشى وفجل» فضحكت لتلك الطلبات ووعدتهم بما أرادوا، وبالفعل حضر الزائرون الإسرائيليون إلى المركز واستقبلناهم، وأيضاً حضر على ما أتذكر شخص أو أكثر من مباحث أمن الدولة ليطلعوا على فحوى اللقاء، ودخل الإسرائيليون فى نقاش مع الباحثين حول الحرب والصراع والقضية الفلسطينية والأمة العربية وغيرها من المناقشات، وأيضا تطرق الحديث إلى التنكيت والضحك واتضح لنا أن الإسرائيليين لديهم نكات عديدة، وأيضاً هم يسخرون من أنفسهم، والباحث الوحيد الذى لم يحضر اللقاء كان سليمان شفيق الرافض للزيارة كما أشرت، ولكنه عندما سمع صوت الضحكات وهو جالس فى مكتبه بالمركز أرسل لى ورقة يسألنى فيها عما يجرى وسبب كل هذا الضحك المسموع، فرددت عليه بورقة، فأرسل لى ورقة يطلب أن يحضر الجلسة ولكن دون أن يدخل فى نقاش، فقبلت ورحبت، وبالفعل حضر وجلس متحفظاً، وكان أمام كل زائر إسرائيلى كارت يحمل اسمه ولفت انتباه سليمان اسم أحدهم وهو «إيمانويل ماركس» وكان يتحدث العربية، وعندما انتهت الزيارة وهموا بالرحيل تقدم سليمان من ذلك الزائر وسأله بلطف هل هناك علاقة عائلية بينه وبين كارل ماركس؟ فرد إيمانويل قائلاً أنا الحفيد الرابع له، فوجدنا جميعاً سليمان شفيق يحتضن الرجل ويقبله ويسعد به، وكنا جميعاً مندهشين، ولكن كان السبب فى ذلك هو نبى اليسار ورائده الأول كارل ماركس، فلم يستطع سليمان أن يتمالك أعصابه وهو يشاهد حفيداً لرائد فكر هو يؤمن به، وصارا بعد هذا اللقاء صديقين مقربين جداً، وعلى عكس الرفض الشديد الذى أبداه سليمان لحضور الإسرائيليين كان من أشد الموافقين على الدعوة التى وجهتها لنا المجموعة الإسرائيلية لزيارة إسرائيل، وبالفعل قطعنا رحلة إلى معبر رفح الذى تعرضنا فيه لبعض المضايقات الأمنية من الجانب المصرى، وفى النهاية تمت الزيارة التى كان الهدف منها بجانب زيارة إسرائيل أن نزور الضفة الغربية ورام الله والقدس العربية ويافا وحيفا.[FirstQuote]
ومن المواقف الطريفة جداً التى تعرضنا لها أثناء الزيارة أن وجدنا داخل إسرائيل مجموعة اسمها «المصريين اليهود» وهم الذين هاجروا إلى إسرائيل من المصريين، وطلبوا مقابلتنا وكانوا سعداء جداً بنا، ووجدناهم يعتزون بمصريتهم التى تظهر فى منازلهم وملابسهم ومطاعمهم وموسيقاهم وتجعلهم ينظرون لليهود الآخرين نظرة دونية، وأيضا اليهود المغاربة واليهود العراقيون كانوا يعتزون بأصولهم ولهم نفس طقوس اليهود المصريين من حيث المأكل والملبس، وكان اللافت هو المستوى المعيشى والتكنولوجى بين الضفة الغربية التى تظهر فيها كل معالم العالم الثالث، وإسرائيل التى وجدناها دولة متقدمة اقتصادياً وتكنولوجياً، وتقابلنا مع مسئولين فى الحكومة الإسرائيلية، وجرت المناقشات بين الباحثين والإسرائيليين ممن نتقابل معهم، وكانت بعض المناقشات تستفز الباحثين، بينما كنت أنا قد اعتدت على مثل تلك المناقشات من زمن طويل يرجع إلى علاقاتى وصراعاتى معهم أثناء دراستى بأمريكا، ولذلك كان الهدوء سمة أساسية لحديثى الذى كان يستفزهم عندما أردد بعض مقولات محمود درويش مثل «عابرون، والزنبقات السود» وغيرهما، ووجدت أنهم دائماً يحتكرون موقع الضحية باستخدام عبارات الشتات وأن دولتهم تكونت بعد معاناة وأنهم يجاهدون من أجل الحفاظ على هويتهم وثقافتهم اليهودية، وكان ردى دائماً عليهم أن الثقافة أبقى من الدول، بدليل أن ثقافة اليهود عاشت برغم الشتات الذى يتحدثون عنه، وأن مغالطات كراهية العرب لليهود هى كراهية سياسية وليست دينية، فالعرب يكرهون كل مغتصب لحقوقهم، ودولة إسرائيل اغتصبت الأرض فهم يكرهون إسرائيل ولا يكرهون اليهود الذين ما زال بعضهم يعيش فى مصر ويتمتع بكل الحب والاحترام من الدولة ومن جيرانهم المسلمين والمسيحيين، وكنت دائماً أؤكد على أن الصراعات فى النهاية لا بد أن تنتهى إلى السلمية، بأن تتنازل جميع الأطراف وتتعايش، وبالفعل كان مركز ابن خلدون قد أخرج تسوية بعنوان «الدولة متعددة العرقيات» التى يتعايش بداخلها اليهود والعرب والمسلمون والمسيحيون، فتكون التعددية هى الأساس، كما تفعل إسرائيل نفسها داخل مجتمعها السياسى «الكنيست» فجعلت لكل مجموعة وطنية أو قومية كوتة ممثلة عن الفئة المجتمعية، ولديهم داخل الكنيست 99 عضواً، إذن فالصوت الواحد لديهم مهم جداً ويستطيع أن يرجح قراراً أو يلغى آخر، وهذه التعددية كانت السبب الرئيسى فى الحفاظ على تفوق إسرائيل التكنولوجى والاقتصادى والعسكرى.[SecondQuote]
أما عن ثورة يناير والتحضير لها، فقد كنت قابلت ضابط شرطة سابقاً هارباً من مصر خوفاً على حياته، ولعل الجميع يعرفه الآن وهو «عمر عفيفى» وكانت قضيته أنه بعد تسوية معاشه المبكر من جهاز الشرطة عمل بالمحاماة وفتح مكتباً بالزمالك، وهداه تفكيره إلى تأليف كتاب صغير الحجم وإرشادى، يشرح للمواطن المصرى كيف يتعامل مع رجال الشرطة، والطريف أن الكتاب كان باللغة العامية المصرية، وكان يحمل اسم «عشان متنضربش على قفاك» وكانت المفاجأة أن الكتاب حقق رواجاً ونفدت طبعاته المختلفة من الأسواق، مما أزعج جهاز الشرطة ورجاله ووزير داخليته آنذاك حبيب العادلى، وحاول بعض أصدقاء عفيفى من الشرطة إقناعه بالتراجع عن طبع الكتاب الذى جعل المواطن المصرى يتجرأ عليهم، مقابل أن يمدوا مكتبه بقضايا تابعة لوزارة الداخلية تضمن له دخلاً سنوياً لا يقل عن مليون جنيه، ولكن عفيفى رفض هذا العرض فردوا على موقفه بحرق مكتبه، ووصلته أنباء بأنه صدرت أوامر باغتياله، ولم ينتظر عمر عفيفى أن يذهب إلى منزله بعد أن علم بتلك المعلومات، فعلى الفور توجه إلى مطار القاهرة حيث لم يتوقع أحد وكانت لديه تأشيرة سارية من سفرية سابقة، وحجز على أول طائرة وغادر البلاد.[ThirdQuote]
كل تلك المعلومات أخبرنى بها عمر عفيفى بعد أن حضر إلى أمريكا واتصل بى، وكنت أعرفه لأن مركز ابن خلدون كان استضافه أكثر من مرة للحديث فى الرواق الأسبوعى، وأخبرنى عفيفى أن ضباط الشرطة بداية من الفرقة الثانية بالكلية يتعلمون أنهم بشوات وأسياد والمواطنون يجب أن يكونوا خاضعين لهم، والكتاب كان يعكس كل هذه المفاهيم ويدمرها، وبالفعل ساعدت عمر عفيفى حتى حصل على اللجوء السياسى والإقامة فى أمريكا واشتغل فى «الوقفية الأهلية للديمقراطية» مع الجالية المصرية وكنت دائماً أحثه على أن يقوى من لغته الإنجليزية.
وعندما جاء التخطيط لاحتجاجات 25 يناير ساعدنا عمر عفيفى كثيراً، وكان لخبرته الأمنية عامل كبير فى إرشاد شباب الثورة للمقاومة والصمود، حيث قال لى إن المتظاهرين دائماً يتجمعون فى ميدان التحرير ويهتفون ضد مبارك وأجهزته لبعض الوقت ثم تحاصرهم ثلاثة كردونات من جنود الأمن المركزى وتنتهى تلك التظاهرة بالفض بخراطيم المياه وحجز بعض المتظاهرين، ومن أجل نجاح الاحتجاجات والتظاهرات يجب أن تكون هناك خطة يدعو إليها قيادات التظاهرات، حيث يجب أن تكون التظاهرات التى اعتادت أن تتخذ مقرها ميدان التحرير فى أماكن مختلفة وميادين متفرقة لتشتيت جهود قوات الأمن مما يفقدهم السيطرة، وأيضا يجب أن يجلب كل متظاهر معه «بصلة، وطعام، ومياه، ومشروبات غازية» لمقاومة قنابل الغاز، وأيضاً ليقتسم تلك الأطعمة والمشروبات مع جنود الأمن المركزى الذين غالباً ما يكونون جوعى وعطشى، وسيتسبب ذلك التصرف فى كسب تعاطف الجنود، فسألت عمر عفيفى على أى أساس تستند نظريتك هذه؟ فقال لى ما كنت قد رددته فى بعض الفضائيات الأمريكية وفى رواق مركز ابن خلدون عندما عدت من المنفى بعد سنوات من الغربة فى ديسمبر 2010 وكان التالى «حيث قابلت وكيل خارجية أمريكا الذى هو الآن سفير أمريكا فى موسكو وأبديت له انتقادى لسياسة أمريكا التى أيدت الثورة البرتقالية فى أوكرانيا بينما تدعم نظام مبارك القمعى فى مصر، وكان رد الرجل هو أن ما أقوله صحيح وأن أمريكا على استعداد للتخلى عن نظام مبارك فى حالة خروج تظاهرات حاشدة ضده بحد أدنى 10 آلاف متظاهر وصمود هؤلاء المتظاهرين 3 أيام فقط فى الشارع».
وبالفعل قد كان، واستمع الكثير من شباب الثورة لنداءاتنا فى الخارج والداخل وحدث يوم 25 يناير خروج الآلاف، والغريبة فى ذلك اليوم اتصل بى 3 من مستشارى الرئيس الأمريكى باراك أوباما، وهم أصدقائى تعرفت عليهم أثناء عملى الأكاديمى والحقوقى وكانوا يطالبوننى بالحضور فوراً إلى «البيت الأبيض» لأن الأمر فى مصر أصبح أكثر خطورة مما كانوا يتصورون، ويحتاجون إلى تحليلى وتفسيرى لما يحدث، وحيث كنت حينها فى مكان بعيد أخذت أول قطار إلى واشنطن وأثناء الرحلة اتصلت بزوجتى، لأننى كنت أعلم أنها فى ذلك التوقيت ستكون بأحد فنادق القاهرة المطلة على ميدان التحرير وبالفعل أطلعتنى على ما يجرى أمامها، وأبلغتها باللقاء الذى استدعيت له، وقلت لها إننى من الممكن أن أتصل بها لأعرف الجديد فى تطورات الأحداث، ووصلت أمام البيت الأبيض فوجدت أمامه مظاهرة للجالية المصرية يقودها عمر عفيفى تطالب أمريكا بالاعتراف بانتفاضة الشعب المصرى وسحب مساندتها لمبارك ونظامه، وسرت فى المظاهرة لبعض الوقت وهتفت معهم، ثم دخلت إلى البيت الأبيض إلى حيث مقر الاجتماع الذى استدعيت له، ووجدت طاولة مستديرة يجلس عليها أصدقائى المستشارون، وهيلارى كلينتون وزيرة الخارجية، وجوزيف بايدن نائب رئيس الجمهورية، وأيضا رئيس أركان الجيش، ورئيس المخابرات، ورحبوا جميعاً بانضمامى للاجتماع، ولخصوا لى ما يدور بينهم، فقد كانت هناك وجهتا نظر، الأولى تقول إن مبارك حليف وفى لأمريكا على مدار 30 عاماً ويجب دعمه فى أزمته، وأخرى تقول لا يجب دعمه لأنه يجب التغيير ويجب دعم المتظاهرين، ثم طلبوا منى أن أبدى وجهة نظرى، خاصة أننى أكثر دراية منهم بالأوضاع المصرية الداخلية، وقبل أن أتحدث دخل إلى الاجتماع الرئيس الأمريكى باراك أوباما ورحب به الجميع وصافحنى مرحباً بوجودى، ثم طلبوا منى أن أبدأ بالحديث، فقلت الآتى «إن مبارك يحتل الترتيب الثالث فى تصنيف مدة الحكم طوال تاريخ مصر فى 6 آلاف عام، فاندهشوا جميعاً، وتحدثت عن الذين سبقوه فى طول مدة الحكم، رمسيس الثانى، فضحكوا بشدة لأنهم يقرأون عن رمسيس فى كتب التاريخ، ومحمد على الذى حكم مصر من عام 1805 إلى عام 1848 ومبارك يأتى فى المرتبة الثالثة، ولا يوجد حاكم عربى تزيد فترة حكمه لبلده على مبارك سوى معمر القذافى حاكم ليبيا وكان ما زال موجوداً، فلكم أن تتصوروا أن فارق العمر بين مبارك والمتظاهرين فى ميدان التحرير بالقاهرة حوالى 50 عاماً، إذن فنحن هنا نتحدث عن جيلين، وبناء على ذلك يجب أن تدعموا المتظاهرين، وتطالبوا مبارك بأن يترك السلطة كما فعل رئيس تونس» ووجدت أن حديثى يروق لغالبيتهم، ثم سألنى أوباما من هم المتظاهرون الموجودون الآن فى ميدان التحرير؟ فقلت له إن زوجتى الآن فى مكان قريب من ميدان التحرير وهى الأجدر بالإجابة عن هذا السؤال، فهل تأذن لى الاتصال بها وتتحدث إليها مباشرة، فوافق بشدة، وعلى الفور اتصلت بزوجتى ووضعت التليفون على الميكروفون الموجود على الطاولة، وقلت لها «بربارا أنا الآن أجلس مع الرئيس أوباما وهو يسأل من هم المتظاهرون الموجودون فى ميدان التحرير؟»، فقالت له «سيدى الرئيس هؤلاء المتظاهرون مواطنون مصريون مثل المواطنين الأمريكان الذين انتخبوك ورفعوك على كرسى الرئاسة من الفقراء والطبقة المتوسطة، فقال لها متعجباً ماذا؟! فقالت له سيدى الرئيس هؤلاء المتظاهرون مواطنون وطلبة جامعات من الذين استقبلوك فى القاهرة أثناء زيارتك لمصر، وحرصوا على أن يستمعوا لك عندما زرتهم فى جامعة القاهرة، وقلت لهم قفوا مع الحرية والديمقراطية فاستجابوا لحديثك، وهم الآن يتظاهرون من أجل المطالبة بحريتهم المسلوبة ومن أجل تطبيق ديمقراطى حقيقى للعدالة الاجتماعية، وكان أوباما والحضور جميعاً يستمعون لحديث زوجتى باهتمام شديد، فى النهاية شكرها الرئيس أوباما على حديثها، وشكرنى على رأيى وانتهى اجتماعى مع أوباما وغادرت البيت الأبيض وأنا مقتنع بأن نظام مبارك انتهى.