رسالة إلى د. عبدالمنعم سعيد ونظرائه

أصعب موقف على النفس البشرية موت الابن فى حياة الأب، ولذلك جاء فى الحديث القدسى الجميل نداء الله سبحانه وتعالى لملائكته «يا ملائكتى قبضتم ولد عبدى، أخذتم فلذة كبده؟ نعم يا رب. فيسألهم الله وهو أعلم بهم: ماذا قال عبدى؟ قالوا حمدك واسترجع، فيقول سبحانه: ابنوا لعبدى بيتاً فى الجنة وسموه بيت الحمد».

وقد تعرض الصديق والعالم والأكاديمى د. عبدالمنعم سعيد لمثل هذه المحنة بفقد ابنه المهندس الشاب «شادى» فجأة، وهذه محنة أيضاً، ثم أعقبتها بأيام وفاة شقيقه المفكر الاستراتيجى اللواء د. قدرى سعيد، فاجتمعت عليه مصيبتان عظيمتان، فقلت فى نفسى: البلاء العظيم يحتاج إلى صبر عظيم.

ثم تعرّض صديقى نور الدين داخلى لمحنة قاسية ومفاجئة، إذ توفيت زوجته الشابة بعد ولادتها، وبعد أن ألقت نظرتها الأولى والأخيرة على مولودتها التى تسمّت باسمها نتيجة بعض الإهمال الطبى فى رعاية الأم بعد الولادة، إذ اعتادت المستشفيات الاطمئنان والاسترخاء بعد إتمام الولادة دون الاطمئنان على صحة الأم.

ومنذ عدة أيام حدثت عدة حوادث سير قُتل فيها عشرات، أدخلت اليتم إلى هذه البيوت، كل هذه المصائب الكبرى جعلتنى أسطر هذه الرسالة إلى كل المجروحين والمكروبين بفقد أو مرض أحبتهم.

كلنا يحتاج إلى العلاج الأمثل الذى نفتقده جميعاً فى مثل هذه المحن، إنه الصبر، ذلك الجواد الذى لا يكبو، والحصن الذى لا يهدم، ولن يتأتى النصر فى كل ميادين المحن والحياة إلا بالصبر، ولذلك قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، بين «النصر والصبر»، والنصر هنا ليس فى ميادين المعارك الحربية التى تحتاج إلى صبر فوق الصبر العادى، ولكن النصر والخروج بسلام من كل محنة لتتحول إلى منحة ربانية والنصر فى كل اختبار فى الحياة، وقد تأملت الحياة فوجدت الناس إما فى نعمة وإما محنة، فصاحب النعمة يحتاج إلى الشكر وصاحب المحنة يحتاج إلى الصبر. والشكر حلو مثل النعمة، أما الصبر فمر مثل المحنة، ولذلك أنصح الناس ألا يتمنوا البلاء، فقد يقع ولا يستطيعون دفعه، وقد يضجر وييأس، وقد يكفر بالله من هول المحنة، وما تمنى أحد البلاء إلا وعجز عن تحمله، ولئن تكون فى عافية وتشكر أفضل لك من أن تكون فى محنة وتصبر. وقد جربت بنفسى تلك الأحوال، ولذا أتمنى العافية لكل الناس، وأحبها حتى لمن يسىء إلىَّ، فلا أتمنى له البلاء والمحنة. وكما أن الناس نوعان فكذلك الإيمان نصفان صبر وشكر، ومن عجز عن الصبر فعليه بالتصبّر وهو تصنع العبد وتكلفه «ومَن يَتَصبَّرْ يُصَبِّره اللهُ». ويكفى لأهل الصبر أن يكونوا فى معية الله «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، وهذه المعيّة شاملة، فتعنى فى ما تعنى الهداية والعون والكفاية والتعويض عن المحنة وتحويلها إلى منحة والبلية إلى عطية. أما أعظم آية فى الصبر فهى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» فأجر الصابر لا حدود له، لأن ألمه لا حدود له والصبر جعله يوجه طاقة الألم فى اتجاه إيجابى نحو البناء لا الهدم.

وأعظم ترغيب فى الصبر قوله تعالى «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ»، فمن أراد محبة الله، فعليه أن يسلك طريق الصبر مهما كان مراً، كما بشرهم القرآن بقوله «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»، وبيّن أجرهم «أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»، ولك أن تتخيل صلوات الله ورحماته على الصابرين، يا له من فوز عظيم، فالله سبحانه يصلى عليه ويرحمه.والصبر قرين الحلم والعفو عن المسىء وما رأيت صابراً حقاً إلا ورأيته متسامحاً كريم النفس مع خصومه حكيماً فى خلافاته، وما رأيت صابراً إلا رأيته ناجحاً فى قيادته أو مؤسسته أو زواجه أو مع أولاده، إذ يتمتع بخاصيتى الصبر والحكمة، وقد وجدت ذلك فى كتاب الله «وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ». ومن رحمة الله بالعبد أن كل شىء فى الحياة يبدأ صغيراً ويكبر إلا المصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر، كما أن النسيان من أعظم نعم الله، إذ تنسى الأيام المصائب، الصبر جزء من حياة الناس جميعاً ومكون رئيسى من مكونات الحياة شاء من شاء وأبى من أبى. وقد أعجبنى من تعريفات الصبر تعريف «الجنيد» «تجرع المرارة من غير عبوس»، وكذلك قولهم «الصبر هو الوقوف مع البلاء بحُسن الأدب»، وقد وصفه الإمام على بن أبى طالب بقوله «الصبر مطية لا تكبو»، وعرفه عمرو بن عثمان «الصبر هو الثبات مع الله وتلقى البلاء بالرحب والدعة»، أى بصدر واسع». وأعظم الصبر هو الذى قاله يعقوب «فصبر جميل»، وهو الصبر الذى لا شكوى فيه، إنك تعرف الرجال حقاً بالصبر عند الصدمة الأولى، وبالصبر طويل المفعول، إذ يحتاج الإنسان إليهما معاً، فقد يصبر أحدنا ساعة المصيبة ثم يجزع بقية عمره، والمطلوب الصبر فى كليهما.

وعلى العاقل ألا يعيش أو يدور مع الأحزان، لأنها تقتل الأعمار وتدمّر النفوس، والرجال دوماً أعظم صبراً فى النوعين من النساء، ولكن الله يعطى المرأة طاقة جبارة على رعاية أولادها بعد وفاة الزوج، وقد يتوفى أحد الزوجين بعد وفاة شريك حياته بعدة أشهر، وكأنهما جسد واحد مات نصفه فلحقه النصف الآخر. الصبر مدرسة عظيمة تخرج منها آلاف العظماء من الأئمة والأعلام، والحصول على شهادة هذه المدرسة وأوسمتها ليس سهلاً، وأعظم من تخرج من هذه المدرسة الأنبياء والرسل «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ».

سلام على أهل الصبر، وخالص العزاء لكل من فقدوا أحبتهم، ومنهم من كتبت المقال من أجلهم.