أصناف أهل الكتاب

نعود إلى أتباع الديانات السماوية لنضع الفروق بينهم، فما كان لنا أبداً أن نخلط بين الجميع ونضعهم فى إناء واحد ثم نقول لأنفسنا والفرحة تحتوينا: هيا بنا نلقى هذا الإناء فى النار، وكأن مهمة المسلم فى العالم هى أن يكون قيِّما على النار ومسئولاً عنها، يضع فيها من يشاء، ثم يضع نفسه وحده فى الجنة! والله سبحانه هو الذى نبهنا لجريمة إبليس الكبرى حينما ادعى الخيرية لنفسه فقال «أنا خير منه» أو ما قالته الأمم السابقة بأنه «لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، كما أن الله نبهنا وقال لنا «بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون».. المسألة هنا متعلقة بالذى يُسلم وجهه لله، أى يخضع له ويتجه إليه، ثم الأمر بعد ذلك عند الله وحده هو الحَكَم، كما قال «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى» فلا أنت أيها العبد البائس ولا أنا ولا كل من فى الأرض يستطيع أن يحكم على ما فى قلوب العباد، هو الله وحده «يعلم السر وأخفى» لا شريك له يا صديقى فى معرفة القلوب؛ لذلك قال سبحانه «والله يعلم إسرارهم»، وقال أيضاً «والله يكتب ما يبيتون». وحين تحدثنا عن أهل الكتاب عرفنا أن «الأهل» هم كل أتباع الديانات السماوية، عالمهم وجاهلهم، مؤمنهم وكافرهم، من عمل صالحاً ومن عمل شراً، سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو الصابئين، ولكن الله سبحانه تحدث أيضاً عن فئة سماها «الذين آتيناهم الكتاب» والمتحدث هنا هو الله سبحانه، أى أنه هو الذى آتاهم الكتاب، وقد ذكرهم الله حصراً فى سورة الأنعام حينما قال بدءاً من الآية 83 «وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه»، ثم قال بعدها «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».. الآن معنا إبراهيم، ثم إسحاق، ويعقوب، ونوح، وداوود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، ثم مَن بعد ذلك؟ يقول الله «وَزَكَرِيّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصّالِحِينَ».. هل تقوم بالعدّ معى يا صديقى، عِد لأننى قلت لك إن الله ذكرهم حصراً، إذن مَن بعد هؤلاء الأنبياء؟ قال رب العزة «وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ».. هؤلاء هم الأنبياء يا صديقى، لكن هل معهم أحد؟ نعم. اقرأ بقية الآيات لتجد الله يقول «وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»؛ مع الأنبياء آباؤهم وذرياتهم وإخوانهم، و«مِن» هنا تفيد التبعيض وليس العموم، أى بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، مَن كل هؤلاء؟ وما التسمية التى أطلقها الله عليهم؟ هؤلاء يا أخى كما جاء فى الآيات هم «أوْلَئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوّةَ». الآن عرفنا من هم «الذين آتيناهم الكتاب».. هم كما جاء بالآيات الأنبياء السابقون على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومعهم بعض ذرياتهم إلى أن تقوم الساعة، ولا شك أنهم بهذه المثابة فئة مميزة جداً لذلك ستجد الله عندما يتحدث عنهم يقول «الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ»، ويقول أيضاً «الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»، أى أن فريقاً من ذريات الأنبياء الذين ذكرهم الله فى الآيات يعرفون الحق ويكتمونه، وهذا الذى يعرف الحق ويكتمه نطبق عليه ما قلناه فى السابق عن الكفر، أى أن مَن عرف الحق وأنكره هو الذى يعتبر كافراً، ويقول الله أيضاً «وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مِّن رّبِّكَ بِالْحَقِّ»، ويقول عنهم أيضاً «وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ»... وهكذا فى كل الآيات التى تتحدث عن «الذين آتيناهم الكتاب» تجد أن الله ذكرهم مدحاً وتزكيةً، والغريب أن معظم التفاسير القديمة والحديثة لم تلتفت لحقيقة أولئك، فقالت عنهم تارة إنهم عموم أهل الكتاب، وتارة أخرى قالت إنهم علماء اليهود، وتارة ثالثة قالت إنهم أهل الكتاب الذين أسلموا! نأتى إلى فئة أخرى، هم «الذين أوتوا الكتاب» والمعنى الواضح أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين أخذوه من الأنبياء وذريات الأنبياء، وهؤلاء وفقاً للمعنى الظاهر هم فئة من علماء أهل الكتاب، يدخل فيهم علماء اليهود الذين كانوا فى خيبر، ويدخل فى هؤلاء الفئة التى فرض الله على المسلمين فى عهد النبوة قتالهم وأخذ الجزية منهم، وقد أوردنا سبب هذا حينما قلنا إنهم أمة الغساسنة التى تعدت على الجزيرة العربية وقتلت مَن قتلت، فماذا قال الله عن هؤلاء؟ قال سبحانه «وَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ الله وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»، والسياق فى الآية يدل على أن المقصود هنا علماء بنى إسرائيل الذين كانوا فى المدينة، وفى آية أخرى «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُم»، ويقول الله عنهم أيضاً «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ».. والله هنا يا صديقى لا يضعهم كلهم فى إناء واحد، لذلك يقول «فريقاً من الذين أوتوا الكتاب» وليس (كل) الذين أوتوا الكتاب، ولذلك أيضاً كانت آية الجزية تفرض القتال على فريق منهم قالت الآية عنهم «من الذين أوتوا الكتاب» و(من) كما ذكرنا جاءت للتبعيض، أى (بعض) وليس (كل)، ولذلك نجد الله يروى لنا فى القرآن عنهم أنهم أهل اختلاف وتفرق، منهم المؤمن بالله حقاً ومنهم من اتخذ الدين تجارة، فيقول «وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة»، ويقول أيضاً «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم». لكن مَن هم الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؟ هم فئة لم تؤمن بكل الكتب السماوية التى نزلت قبل الإسلام، بل آمنت بكتابها فقط، وكفرت بالكتاب الذى جاء بعدها، والمعروف أن اليهود لم يؤمنوا بسيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وبالتالى لم يؤمنوا بالإنجيل، فهم بهذه المثابة يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وكل آيات «الذين أوتوا نصيباً من الكتاب» كانت أسباب نزولها مرتبطة بيهود المدينة، ومنها مثلاً أنهم جاءوا للرسول (صلى الله عليه وسلم) أكثر من مرة وطلبوا منه أن يطبق فيهم القرآن، وقالوا نحن نؤمن بما ستطبقه علينا.. وعندما حكم الرسول عليهم بما فى القرآن ماذا فعلوا؟ أخبرنا الله (سبحانه) بقوله «أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ».. وحينما نقرأ آيات «الذين أوتوا نصيباً من الكتاب» نجد أنها جاءت فى القرآن ثلاث مرات، وفى كل مرة كانت مسبوقة بـ«ألم ترَ»، ويبدو أن هناك سراً فى هذا الأمر سنتحدث عنه فى المقال المقبل.