الصين وروسيا.. آفاق جيوسياسية جديدة

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

الإعلان الصينى الروسى المشترك الذى وقعه الرئيسان الروسى فلاديمير بوتين ونظيره الصينى شى جين بينج، يجوز قراءته باعتباره يشكل إيذاناً ببدء حقبة جيوسياسية جديدة، فالوثيقة المشتركة التى احتوت على 31 بنداً جاءت بعنوان «الإعلان المشترك بخصوص دخول العلاقات الدولية عهداً جديداً والتنمية المستدامة»، وهى لأول مرة تستخدم هذه اللهجة من قبَل كلتا الدولتين تجاه الولايات المتحدة، خاصة وفى طياتها استشعار لقلق بالغ وتنديد صريح بـ«التأثير السلبى» لنفوذ واشنطن على الاستقرار والسلام العادل بالعالم.

فيما يخص القضايا الأمنية، كان هناك هجوم على واشنطن، حيث طالبها الإعلان المشترك بإزالة مخزوناتها من الأسلحة الكيماوية، مع الإشارة إلى ضرورة وقف «التدخلات السلبية» الأمريكية فى منطقة المحيطين الهادئ والهندى. كما أعربت الصين وروسيا عن القلق إزاء الخطط الأمريكية المتعلقة بتطوير نظام الدفاع الصاروخى العالمى، وبالتبعية منظومة نشر الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى بمناطق فى آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، فى هذا السياق جاء ذكر تحالف «أوكوس» العسكرى ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، كونه يزيد من خطر سباق التسلح فى المنطقة ويخلق وضعية جديدة لانتشار الأسلحة النووية. وحرصت موسكو، على ما يبدو، على إدراج اتهام لحلف شمال الأطلسى، خاص بنطاقات تمدده ونهجه المؤدلج -كما سمته- حيث يعود بمشهد التنافس الدولى إلى أجواء «الحرب الباردة». ولذلك دعت الدولتان واشنطن إلى التخلى عن عقلية الحرب الباردة، وتقليص الاعتماد على ترسانتها النووية فى سياساتها بشكل عام، وسحب كافة أسلحتها النووية المنتشرة خارج حدودها، وفى هذا إشارة إلى تزويد أستراليا بصفقة الغواصات النووية الأخيرة، التى أثارت قلق بكين على وجه الخصوص.

تحرك فلاديمير بوتين ونجاحه فى استصدار هذا الإعلان المشترك، يقيناً يصب فى صالح روسيا بشكل رئيسى، بالنظر إلى دعم عملاق اقتصادى وسياسى كبير مثل الصين يعوّض موسكو عن كثير من المصاعب التى قد تواجهها مستقبلاً. ولهذا سلط الضوء بشكل كبير على صفقة الغاز التى جرى إبرامها ما بين روسيا والصين، خلال ذات الزيارة التى حضر فيها الرئيس الروسى فعاليات بدء دورة «الألعاب الأولمبية الشتوية» التى تقدم روسيا بمقتضاها إلى بكين نفطاً وغازاً بقيمة 117 مليار دولار، ومن مرتبة المورّد الثالث للغاز إلى الصين تعزز تلك الصفقة الضخمة الممتدة العلاقات بين الدولتين على نحو غير مسبوق، فضمانة استمرار تزويد الصين، أكبر مستهلك للطاقة فى العالم، من قبَل روسيا تفتح الباب أمام الأخيرة لتعويض أى إشكاليات قد تنشأ مع العملاء الأوروبيين التقليديين. وهى مراهنة فى محلها بالنظر إلى حجم ما قامت به شركة «غاز بروم» الروسية العملاقة من إمداد بكين بنحو 450 مليون طن من النفط منذ العام 2005، لذلك تقف موسكو اليوم فى القلب من صفقتين كبيرتين وليست واحدة، الأولى قد تدر حوالى 37.5 مليار دولار على مدى 25 عاماً قادمة، بافتراض متوسط سعر للغاز يبلغ 150 دولاراً لكل ألف متر مكعب، حسبما أشارت شركة الغاز الروسية بخصوص صفقتها الحالية مع الصين. والأخرى تستمر على مدى 10 سنوات قادمة تزود فيها روسيا الصين عبر شركة «روس نفط»، بنحو 100 مليون طن من النفط عبر جمهورية كازاخستان!

وربما جاء التأكيد فى الإعلان على مبدأ الصين الواحدة واعتراف روسيا بذلك مدعاة إلى مسارعة تايوان بالإعلان عن رفض هذا الإعلان المشترك. جاء هذا فى رد وزارة الخارجية التايوانية التى عبّرت عن احتجاجها الحازم على البيان، وأدانت بشدة ما سمّته الصياغة الكاذبة التى تنتهك سيادة جمهورية تايوان، كما أكدت على نحو مضاد للإعلان أن كلاً من تايوان والصين لا تخضعان لبعضهما البعض، ولا يحق للحكومة الصينية تمثيل تايوان على الساحة الدولية. ويبدو أن تلك النقطة الحساسة بالنسبة للصين ستكون قريباً محل اختبار حقيقى للبيان المشترك، ولا يبدو فى الأفق ما يمكن اعتباره تراجعاً أو تعقلاً صينياً فيما يخص تلك القضية، خاصة أن بكين لم تقرأ المستهدف من تحالف «أوكوس» سوى أنه موجَّه لها بالأساس. والإشارة فى البيان إلى التعقل المطلوب من واشنطن وحلفائها فيما يخص التدخل فى مبدأ السيادة للدول الأخرى، جرت قراءته هو الآخر باعتباره معبراً بشكل غير مباشر عن أزمة أوكرانيا وإن لم تأتِ صراحة.

ما يجعل النظر إلى الإعلان كونه يتخطى منطق الصفقات الكبرى المتبادلة على أهميتها ومحوريتها بالنسبة للدولتين، وآخرين من المتدخلين فى هذا النطاق، أن هناك قضايا أخرى شملها الإعلان المشترك تضع بهدوء وحسم بداية لحقبة جديدة بالفعل، تُقرأ من وجهة النظر المقابلة للولايات المتحدة باعتبارها مهددات حقيقية، مثلما جرى التأكيد على قضية «مكافحة الإرهاب» عبر طرح مبادرة تشكيل جبهة عالمية موحدة ضده، مع أداء الأمم المتحدة دوراً رئيسياً فيها، مما يعزز من التنسيق السياسى والتعاون البنّاء فى الجهود متعددة الأطراف الرامية إلى مكافحة الإرهاب، مشددتين فى الإعلان على رفضهما لتسييس المسائل المتعلقة بمحاربة الإرهاب، وتحويلها إلى أدوات لانتهاج سياسة المعايير المزدوجة. وفى ذات النسق المهم جاء رفض محاولات عسكرة الفضاء، بل وأهمية استخدام المجال الفضائى لأغراض سلمية حصراً، ومعارضتهما لمحاولات بعض الدول تحويل الفضاء إلى ساحة للمواجهة العسكرية، مؤكدتين عزمهما على بذل قصارى الجهد بغية منع عسكرة الفضاء وتفادى سباق التسلح هناك. وكان لافتاً صدور تعهد روسى صينى بالتصدى للأنشطة الرامية إلى تحقيق بعض الدول تفوقاً عسكرياً فى الفضاء، واستغلاله كمنطلق لتنفيذ عمليات عسكرية، كما أكد الإعلان المشترك أيضاً ضرورة إطلاق التفاوض فى أسرع وقت ممكن بغية إبرام وثيقة قانونية ملزمة متعددة الأطراف، تقدم ضمانات أساسية وراسخة لتجنيب الفضاء استخدام القوة، ومنع التهديدات بحق الأجسام الفضائية.

الإعلان تناول الكثير من الأمور التى تفرض مشهداً جديداً بالغ الأهمية، بمكونات ومحاذير جديدة قد تُفضى فى مرحلة لاحقة سريعة إلى خلق نظام عالمى جديد تماماً، ليس له علاقة بما كان عليه العالم ما قبل صدوره فى هذا التوقيت اللافت.