جندي الأفكار عبدالمنعم سعيد

حكم الرئيس الراحل فيديل كاسترو بلاده كوبا لنحو خمسين عاماً، وقد قرّر بإرادة منفردة، فى عام 2008، أن يتخلى عن الحكم، بينما يمسك بكل مفاصله ويحظى بكل مطاوعة وقبول، وحين سُئل: وماذا ستفعل فى ما تبقى من عمرك؟ أجاب: سأكون «مجرد جندى أفكار».

لطالما أعجبنى هذا التعبير الذى أراد كاسترو أن يصف به نفسه فى سنوات ما بعد السلطة.. «جندى أفكار». يا له من تعبير دال وأخاذ. بيان مُهمة عبقرى مصوغ بعناية. لا تنقصه نزعة أدبية أو صنعة فى السبك أو حفاوة بالمجاز. وستكمن روعته دائماً فى قدرته البالغة على الموازنة بين ما فى الجندية من التزام ومثابرة وجلد واستعداد تام للوفاء، وبين ما فى التفكير من حرية وطاقة ذهنية متجدّدة وإبداع.

حين أستعير هذا التعبير الذكى وأدور به على نخبتنا الوطنية المعاصرة لا أجد تجسيداً حياً له، كما أراه فى الدكتور عبدالمنعم سعيد؛ فذلك الرجل استطاع أن يجمع بين وظيفتى الجندى والمفكر فى حياته الحافلة والمُنتجة، كما لم يفعل نظراء له لا تعوزهم الثقة، ولا تنقصهم عظمة الأداء، وقد كان جمعه بين استحقاقات الوظيفتين والدورين ومناقبهما واقعياً وليس مجازياً ومستديماً وليس منقطعاً، مهما ساءت الأحوال أو تعاظمت الخطوب.

عقدان بالكمال والتمام يفصلان بيننا؛ إذ يكبرنى الدكتور عبدالمنعم سعيد بعشرين عاماً، وهى فترة سمحت له بتكوين فريد مكّنه من معاينة تأثيرات «ثورة يوليو» على البلد والمنطقة والعالم، ثم معايشة «النكسة» وأوجاعها، قبل أن يعيش انتصار أكتوبر ليس فقط كمواطن وباحث، ولكن أيضاً كجندى حارب وشارك فى صناعة النصر.

فى مقاله الذى نشره فى «المصرى اليوم» الغراء بعنوان «أكتوبريات» فى شهر أكتوبر الماضى، يحكى صاحبنا عن ذكرياته عشية يوم العبور، وعن رجال ومواقف وحوادث وقعت فى أيام الحرب، التى كان خلالها رقيباً فى الكتيبة 654 المتخصّصة فى المقذوفات المضادة للدبابات، مسئولاً عن مهمتين؛ أولاهما مهمة الجندى: الاستطلاع، وثانيتهما مهمة الباحث (المفكر لاحقاً): تسجيل وقائع الحرب وأوامرها وعملياتها وتحركاتها.

كان هذا هو التأسيس الجوهرى لمهمة صاحبنا التى اختارها لنفسه، أو انتدبته لها الحياة واستحقاقات المواطنة، التى لا يمل من الإشارة إلى فخره بها وولعه بأمجادها. وفى هذا التأسيس ما سيرسم له ملامح مستقبله، الذى سيتضافر مع تاريخ وطنه ومجتمعه؛ فبعد الجندية سيواصل الدراسة والعمل فى البحث والتفكير فى مؤسسة «الأهرام»، ثم لن تنقطع الخدمة الوطنية، سواء فى رئاسة مركز الدراسات الأهرامى، أو قيادة المؤسسة ذاتها، بموازاة عضوية مجلس الشورى، ثم «الشيوخ»، ورئاسة مجلس إدارة «المصرى اليوم»، والتدريس فى الجامعات الأمريكية، وإعطاء النُّصح وتقديم الأفكار للوطن ومؤسساته وناسه.

أما الكتابة فهى وظيفة «جندى الأفكار» الدائمة، التى لا يتوقف عنها فى أحلك الظروف وأصعبها، والتى يراها وسيلته الأهم للوفاء بمهمته، وهى ستستمر فى الصحف المصرية والعربية والدولية، ولن تنقطع عن الكتب والدراسات المُحكمة فى الدوريات العلمية، ولن يخفت بريقها، أو يذبل إبداعها، أو تخلو من الجهد والتجدد والأصالة.

لم تحل العشرون عاماً التى يكبرنى بها الدكتور عبدالمنعم سعيد دون أن أحظى بصداقته، وهو على أى حال يحب ويجيد أن يكون له أصدقاء من أجيال متعدّدة، ورغم تباين المكانة والخبرة والتأثير، ورغم مقامه فى موضع الأستاذية لى ولأجيال أخرى كثيرة أتت قبل جيلى وبعده، فإن الحديث بيننا يظل منساباً وذا وحدة موضوعية ونزعة إنسانية لافتة، رغم تباعد المسافات واللقاءات.

نلتقى عادة فى مدن مصرية أو عربية أو غربية، لحضور مؤتمرات وندوات، فأنتهز الفرص للحديث إليه، وقد سألته فى إحدى المرات: كيف تحافظ على هذا التدفّق المنتظم فى الكتابة بأكثر من سوية، وفى أكثر من مجال اهتمام بالقدر ذاته من الحكمة والتكامل والقدرة على الإبهار؟ فأجاب بعد إظهار التواضع: أقسم الأسبوع إلى جزءين؛ أولهما وهو الجزء الأكبر مخصص للقراءة وإعمال الذهن والاحتشاد بالأفكار، وثانيهما وهو الأقل أخصصه للكتابة.

سألته بينما كنا على عشاء فى مدينة عربية: كيف تحافظ على الرصانة العلمية والجدية الفكرية فى ما تكتبه، بينما تأتى العبارات فى كثير من الأحيان مثل قطع من الأدب الرفيع؟ ففهمت منه أنه هوى الأدب، وربما جرّب حظه فى مسالكه مرات.

أصيب صاحبنا بالسرطان، وقاوم بجسد جندى وعقل مفكر وصاحب إلهام ووجدان مؤمن، فاستطاع أن يقهره وأن يلزمه حدوداً فى الإيذاء، وكان هذا وسيظل دأبه وسيرته فى ما تفرضه عليه الظروف من محن.

فى الشهر الماضى، خطف الموت نجله الغالى المهندس شادى، فتلقى صاحبنا العزاء بذات الجلد والمثابرة والرضا بالأقدار، ثم سجل امتنانه لكل من واساه، وعاد يفكر وينتج وينشر إبداعه هنا وهناك، بما يليق بـ«جندى الأفكار».

كنت مصاباً بـ«كورونا» حين وردت الأخبار عن وفاة المهندس شادى، وطالت فترة المرض وتضاعفت آلامه، ولم أتمكن للأسف الشديد من مشاركة صاحبنا مصابه كما يجدر ويليق، وها أنا ذا أبلغه عزائى ودعواتى له ولأسرته بالصبر والسلوان.

لا يتوقف هذا الجندى المفكر الدكتور عبدالمنعم سعيد عن ضرب المثل والإلهام؛ فهو سيواصل الوفاء بمهمته وإنجاز عمله وتقديم أفكاره لنا مهما تعاظمت المحن، ونحن سندعو له بالصحة والسعادة ومواصلة العطاء، الذى يجب أن يدرك أنه كان وسيظل عطاءً بالغ الأهمية للوطن وأبنائه.