رجل الجزيرة العربية المريض.. مَن ينقذه؟!
أزعم أننى أعرف اليمن معرفة قريبة ووثيقة. وقد قطعت دروبه وجباله ووديانه من صعدة فى الشمال إلى أبين وحضرموت فى الجنوب. وفى ثلاث سنوات قضيتها مستشاراً للحكومة اليمنية عرفت ما لم يعرفه كثيرون فى سنوات طويلة، وضمن ما عرفت أن ما بين مصر واليمن «علاقة خاصة» بكل مفردات العلاقة الخاصة؛ التاريخية والثقافية والحضارية.
تستطيع أن تطالع مظاهر هذه «العلاقة الخاصة» فى كل مكان فى اليمن من مجالس الأدب والشعر إلى مجالس «تخزين القات»، وهى أيضاً مجالس للشعر والأدب والسياسة. والسفارة المصرية فى شارع جمال عبدالناصر، أكبر شوارع صنعاء، هى -بهيبتها وضخامة بنيانها- سفارة دولة عظمى، تذكرك -مع فارق فى الدور- «بقلعة» السفارة الأمريكية فى جاردن سيتى! وموقع السفارة المصرية الجغرافى والسياسى كان يثير حفيظة الأمريكيين وغيرتهم وهم يقارنون بينها وبين السفارة الأمريكية فى صنعاء.
كان صديقى خالد الكومى، سفيرنا الأسبق فى اليمن، هو رفيقى فى «ليالى صنعاء»، والعين التى رأيت بها هذا البلد العربى الذى ظلمناه بتجاهلنا له فقرر أن ينتحر بدلاً من أن يلملم شتات قبائله وجماعاته المسلحة ويتحول إلى دولة وطنية عصرية. وكان الدكتور الكومى ينحى باللائمة على نظام مبارك ويتهمه «بالحوَل السياسى» تجاه اليمن، وهو فى الواقع «حوَل عام» تجاه المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية للأمن القومى كالسودان والصومال والقرن الأفريقى وحوض النيل، رغم أن سبقنا التاريخى -قبل أكثر من نصف قرن- للتدخل فى اليمن للدفاع عن ثورتها، وحماية حق اليمنيين فى الانتقال من حكم العصور الوسطى إلى العصر الحديث كانت وراءه دوافع استراتيجية تقدر أهمية الموقع الاستراتيجى لليمن فى مدخل البحر الأحمر الجنوبى وقريباً من القرن الأفريقى، ورغبة فى تحويل البحر الأحمر إلى «بحيرة عربية مغلقة» من السويس إلى باب المندب. وقد تعرض التدخل المصرى فى اليمن لسهام مسمومة، خرج معظمها -للأسف- من نبال مصرية بدوافع حزبية ضيقة. وما يحدث اليوم من تحولات دراماتيكية سريعة فى اليمن، بوصول المتمردين الحوثيين إلى مراكز الحكم والسلطة فى صنعاء دون مقاومة تُذكر، واستيلاء القاعدة على مفاصل مهمة فى الجنوب، وضغوط الحراك الجنوبى للانقلاب على دولة الوحدة، وتواتر الحديث عن تجزئة اليمن وتقطيع أوصاله إلى ستة أقاليم، واستمرار حالة السيولة وعدم التوافق القومى بين كافة ألوان الطيف اليمنية، وعجز النظام الجديد عن فرض الأمن والاستقرار وحماية حدوده بما يمنع من تسلل الجماعات الإرهابية عبر الحدود اليمنية المفتوحة، وعدم القدرة على إدارة الصراعات المحلية كل ذلك بما يجلبه ويستدعيه من تدخلات أجنبية ينذر بمخاطر وتهديدات تُرخى بظلالها الداكنة على الأمن القومى لمصر ودول الجوار العربى فى الخليج والجزيرة العربية وعلى أمن الملاحة فى البحر الأحمر. لقد قدر لليمن طوال القرن العشرين وما بعده أن يكون مصدراً لعدم الاستقرار فى الخليج والجزيرة العربية بحكم الجوار الجغرافى والاجتماعى، خصوصاً لأقطار مثل المملكة العربية السعودية وعُمان اللتين تشتركان مع اليمن فى حدوده الشمالية والشرقية. ما يشهده اليمن من توترات داخلية يمثل تهديداً للأمن القومى السعودى بوجه خاص وأمن الخليج بوجه عام، ويزيد الأمر خطورة مع توسع نفوذ «الحوثيين» واستقوائهم بإيران ومحاولة توسيع الهلال الشيعى من العراق إلى شرق الجزيرة العربية وجنوبها وتهديد «الحوثيين» بنقل المعارك إلى الأراضى السعودية، بل والحديث عن أحقية أبناء «صعدة» فى استعادة جبل العروة ومناطق جيزان وعسير ونجران، بالإضافة إلى الدعم الإيرانى «للحوثيين»، كل هذا يجعل من المستحيل أن يغيب الدور العربى عن اليمن وضرورات استقراره.
لقد ساهمت الأوضاع الاقتصادية والتنموية المتردية فى اليمن، والوزن الديمجرافى الكبير، مقارنة بالأقطار الخليجية، فى عدم استقرار الأوضاع الداخلية فى أقطار الخليج العربى، حيث بات اليمن أحد مصادر التهديد غير العسكرى الذى يواجه أقطار الخليج العربى. وأوضاع اليمن كدولة فاشلة جعلته يبدو بالفعل «رجل الجزيرة العربية المريض»، وهو ما قد يؤدى إلى انهيار تام للنظام الإقليمى للخليج وتهديد الملاحة فى البحر الأحمر وقناة السويس، وتوقف إمدادات النفط والتجارة الدولية ما لم تتم مواجهة التهديدات التى يمثلها اليمن، والأخذ بيده للخروج من كبوته الأمنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، فاضطراب اليمن وعدم استقراره قد تكون لهما أضرار على الأطراف الإقليمية والدولية أضخم من تلك التى تصيب اليمن ذاته. فالموقع الاستراتيجى الحيوى لليمن وجواره مع الخليج العربى بوزنه فى الاقتصاد العالمى وموقعه على البحر الأحمر تجعل الأزمات والنزاعات اليمنية الداخلية تؤثر مباشرة على المصالح العربية فى مصر والخليج العربى. وفى بلد محدود الموارد يكون الموقع الجغرافى هو مصدر التأثير والنفوذ الوحيد الذى يمكن أن يؤثر به اليمن فيما حوله. فاليمن يقع على مرمى حجر من القرن الأفريقى ويسيطر على واحد من أهم خطوط الملاحة الدولية وذلك من خلال تحكمه فى مضيق باب المندب والبحر الأحمر. ومن مصلحة مصر ودول الخليج الحفاظ على سيولة الحركة الملاحية عبر هذا الممر البحرى المهم الذى تسلكه الناقلات العملاقة التى تحمل جزءاً مهماً من النفط الخليجى المتجه إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مروراً بالبحر الأحمر وقناة السويس. ولا شك أن وجود تنظيم «القاعدة» وتمركزه فى اليمن وتمدد النفوذ الإيرانى بعد صعود الحوثيين وظهور جماعات منظمة للقرصنة البحرية فى القرن الأفريقى يجعل الملاحة فى هذا المضيق فى حالة تهديد مستمر، لأن ناقلات النفط سوف تكون أحد الأهداف الرئيسية لضرباته، وهو ما سيوقع بقناة السويس وبالاقتصادات الخليجية أشد الضرر، مما يستلزم تحركها لمواجهة هذا الخطر بالعمل على إعادة استقرار اليمن.