فوضى الفتاوى الدينية ودورها فى تهديد الأمن القومي
مع بداية العام الميلادى الجديد، حدث أمران يعبران بوضوح عما يمكن أن نطلق عليه «فوضى الفتاوى الدينية». الأمر الأول حدث يوم الثلاثاء الموافق الثامن عشر من يناير 2022م، حيث نشرت دار الإفتاء المصرية توضيحاً بشأن صورة مفبركة راجت على مواقع التواصل الاجتماعى، مزعوم نسبتها إلى الدار، وتحمل عبارة (الساعة اقتربت.. وعلى البشر الاستعداد للقاء الله). ونظراً لأن هذه الصورة بما تضمنته من عبارات لم تصدر فعلاً عن الدار، لذا فقد اقتضى الأمر أن تؤكد الدار أن الصورة مفبركة، وأن العبارة سالفة الذكر لم تصدر عنها. وقد نال التكذيب مئات التعليقات خلال دقائق معدودة، حيث اعتبر أحدهم أن «كثرة الأخبار المكذوبة على لسان الدار والتلفيق لدار الإفتاء المصرية فى هذه الأيام، إنما تنبه العقل إلى إدراك الملفقين لأهمية الدار لدى جميع المسلمين، وأخذها بزمام الفتوى على مستوى العالم، كما ينبئ بإدراك الملفقين لثقة المستفتين والمتابعين للدار». وكان حساب دار الإفتاء على «فيس بوك» قد نشر قبل ذلك بساعات، وتحت عنوان «تصحيح مهم»، أنه قد انتشر على بعض المواقع الإلكترونية خبر بعنوان «دار الإفتاء المصرية تحرم حفل الخطوبة»، حيث تضمن الخبر تصريحات على لسان أحد الدعاة. ونوه التصحيح بأن هذا الخبر لم يصدر عن دار الإفتاء، وأن الداعية الذى تم ذكر اسمه لم يعمل كأمين فتوى فى دار الإفتاء المصرية.
أما الأمر الثانى، فيتعلق بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث صدر بيان عن مجلس الإمارات للإفتاء الشرعى، يتضمن دعوة موجهة إلى أفراد المجتمع ومؤسساته كافة إلى عدم الخوض فى مسائل الفتوى الشرعية دون ترخيص أو تصريح، ويهيب بالجمهور عدم نشر أو إعادة نشر أى فتوى شرعية غير معتمدة من المجلس والجهات الرسمية المخولة بالفتوى فى الدولة. ووفقاً لعبارات البيان، فإن السبب وراء صدوره يكمن فيما لاحظه المجلس من تجاوزات ومخالفات فى تصدر بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعى للفتوى الشرعية بغير ترخيص أو تصريح، والجرأة على إصدار الأحكام الشرعية فى المواضيع الدينية والاجتماعية والأسرية وغيرها، خاصة فيما يتعلق بالتكفير واستغلال نصوص الدين فى التعدى على الغير، مما يؤدى إلى انتشار الكراهية والطائفية والتكفير والتشدد والتطرف؛ ويتنافى مع سماحة الدين الإسلامى الحنيف.
والواقع أن فتاوى غريبة وأخرى متطرفة تظهر بين الحين والآخر، وتنتشر بسرعة بين العامة، وتسهم وسائل التواصل الاجتماعى فى تناقلها وإثارة النقاش حولها، بحيث تصل إلى جموع الناس. وقد بدت هذه الفتاوى أكثر تطرفاً وغرابة بعد موجة ما أطلق عليه «الربيع العربى»، حيث أُفتى مثلاً بقتل المعارضة فى مصر لمخالفتها رئيساً منتخباً، أو بجهاد النكاح فى سوريا، وحتى بتحريم جلوس الأب وابنته لوحدهما، وهى الفتاوى التى دفعت بعلماء فى دول إسلامية كثيرة إلى التحذير من مخاطرها وعدم الأخذ بها، كما فعل مفتى تونس بالنسبة لفتوى جهاد النكاح. ووصل الأمر فى بعض الأحيان إلى حد الملاحقة القضائية، كما حدث فى الفتوى بقتل زعماء جبهة الإنقاذ المعارضة، خلال الفترة التى وصلت فيها جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم فى مصر.
وقد اشتهرت بعض الفتاوى أكثر من أصحابها، مثل فتوى الدعاء على ضحايا إعصار ساندى، الذى ضرب الساحل الشرقى للولايات المتحدة، والتى أدت إلى تدخل مفتى السعودية، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، للتحذير من الدعاء عليهم، قائلاً إن هذا الدعاء «غير مشروع، ولا تظهر فيه وجاهة». وكذلك فتوى تحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، التى تتردد فى مصر مع بداية كل عام ميلادى وفى المناسبات الدينية القبطية، والتى استدعت تدخل الجهات المختصة بالفتوى أكثر من مرة للتأكيد على أن مثل هذه الفتاوى تنبئ عن عدم الفهم الصحيح لأحكام الدين وقلة الاطلاع لدى الشباب الذين يقبلون عليها.
ولا نغالى إذا قلنا إن فوضى الفتاوى الدينية تهدد النسيج المجتمعى وتقوض الوحدة الوطنية وتسهم فى نشر التخلف وتعوق التنمية المجتمعية. ومن أجل ذلك، كان من الطبيعى أن يتدخل المشرع الجنائى فى بعض الدول العربية بتجريم بعض السلوكيات ذات الصلة. ففى دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، وبموجب المرسوم بقانون اتحادى رقم (7) لسنة 2016م، أضاف المشرع مادة جديدة إلى قانون العقوبات، تنص على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبالغرامة، كل من أفتى بفتوى من شأنها الإخلال بالنظام العام أو تعريض حياة إنسان أو سلامته أو أمنه أو حريته للخطر، وتكون العقوبة السجن المؤقت إذا ترتب على الفتوى حدوث ضرر أياً كان». وورد النص على الحكم ذاته فى المادة 219 من قانون الجرائم والعقوبات الجديد فى دولة الإمارات العربية المتحدة، الصادر بالمرسوم بقانون اتحادى رقم (31) لسنة 2021م.