رصاصة إبراهيم عيسى التي لا تقتل!

كنت أستمع إلى حديث الأستاذ إبراهيم عيسى إلى جمهور معرض العراق الدولى للكتاب، فى ديسمبر الماضى، على موقع «يوتيوب»، حيث أثار الإعجاب وأيقظ الأفكار فى العقول، كما يفعل عادة، وفى هذا الحديث أثار نقطتين مهمتين؛ أولاهما أن حالة التطرف والتفكير الأحادى والظلامى التى تجتاح عالمنا العربى والإسلامى، منذ خمسة عقود على الأقل، لا تخص الجماعات ذات الإسناد الدينى فقط، ولا المتطرفين والإرهابيين الذين ينخرطون فى أنشطة حركية فقط، ولكنها تتسع لتشمل طبقات وفئات ومؤسسات وأفراداً «عاديين»، يقتاتون على الفكر الظلامى والإقصائى، ويتسامحون مع استبداده وقمعه واحتكاره للحقيقة.

وأما ثانية تلك النقاط فكانت حديثه عن أن قطاعاً بيننا يعيش فى «المثلث الأسود»، وهو مثلث يرى «عيسى» ضلعه الأول فى الإيمان المطلق بأن «ماضى الأمة كله كان جميلاً وعظيماً»، وضلعه الثانى يتجسد فى أن «هذا الماضى العظيم الجميل يجب أن يعود»، أما ضلعه الثالث فيتمثل فى أن «هذا الماضى الجميل العظيم يجب أن يعود حتى ولو باستخدام القوة».

يقبض «عيسى» هنا على الحقيقة التى تؤرقه صحفياً، وروائياً، ومفكراً، وناشطاً فى الصفوف الأولى للحركة الوطنية، ومشتبكاً مع قضايا أمته وعالمه بجدية واستعداد تام لدفع الأثمان مهما كانت موجعة. والحقيقة، كما يراها «عيسى»، أن نتاج هذا المثلث لن تكون سوى «الحالة الداعشية»، التى سبق أن أوضح أنها تجد حاضنة اجتماعية من وسط يتسامح مع جل مرتكزاتها الفكرية.

عندما حصلت على رواية «عيسى» الأخيرة «رصاصة فى الرأس»، وبدأت فى قراءة سطورها المشغولة بعناية، عرفت أن الأفكار التى يكتبها فى مقالاته، ويعلنها فى برامجه، ويذكرها فى ندواته، يمكن أيضاً أن تُصاغ فى رواية تُكتب بأعلى تقنيات السرد وأكثرها تجاوباً مع المرتكز الفكرى وإخلاصاً له.

ربما كانت تلك هى رواية «عيسى» العاشرة، فقد أصدر سلسلة من الروايات التى أثارت الاهتمام والجدل اللائقين بتجربة الكاتب وقدراته المتنوعة، لكن تلك الرواية انطوت على عمق لافت على بساطة لغتها، وصنعة حذقة بغير تكلف، وإيحاء دال رغم اتقاء المباشرة.

فى تلك الرواية ستجد كتابة للصورة وتوخياً لها، إذ ستتحرك الشخصيات أمامك على الورق، ولن يتكلف كاتب السيناريو جهداً ذا بال إذا تم نقلها للسينما أو التليفزيون، لكن الصعوبة ستكمن فى إيجاد الممثلين القادرين على لعب أدوار أبطالها؛ إذ تم بناء كل شخصية باعتبارها عالماً فى حد ذاته، وعبر التأصيل العميق للشخصيات بدا أن كلاً منها بطل مكتمل الأركان، لا ينقصه التأسيس التاريخى والاجتماعى لما بات عليه، ولا تعوزه الحجج الناصعة لتسويغ مواقفه، ولا تطغى عليه ثقافة الراوى، الذى تخلى عن دوره، وترك كل بطل من الأبطال يصنع مسيرته بين من عداه من زملاء الملحمة.

تحكى الرواية عن اندلاع العنف المؤسس على الفكر الدينى فى سبعينات القرن الفائت فى مصر، فتعتمد لمقاربتها الذكية خطين؛ أولهما يختص بوقائع تمت هندسة عالمها ببراعة ودقة الصحفى المُحقق، فأعادت بناء ما جرى بخصوص تنظيم «جماعة المسلمين»، وأميرها «شكرى مصطفى»، وواقعة قتل الشيخ حسين الذهبى، وزير الأوقاف الأسبق، كاشفة عن أسرار وتواطؤ وإهمال وفساد أسقطنا فى مستنقع عفن ما زلنا عاجزين عن مغادرته حتى الآن. أما ثانى الخطين فقد نسجه الروائى المبدع عن أربعة من الأشخاص الذين عاصروا الحدث عبر مُخيلته، وكأنما يجسدون ملامحنا العامة، بما فيها من سقوط فكرى واستسلام مأفون، أو مقاومة خجولة وعزوف عن المواجهة.

وعلى مدى صفحات الرواية الـ442، سيأخذك الراوى بطاقة سرد حرة ووثابة إلى تلك الحقبة الخطيرة فى تاريخنا، وكما هى العادة، فلن تعوزه الجرأة لكى يسمى الأشخاص ويشرح السياسات ويكشف مواطن الفساد والخطل بلا مواربة أو حسابات.

سيحدث ذلك مع «المجرمين القتلة» الذين ترك لهم الفرصة كاملة لكى يدافعوا عن أنفسهم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين نقب فى مسارات رحلتهم، باحثاً بإخلاص عن مكامن التطرف والعنف والفكر الإقصائى، وكاشفاً الظروف الاجتماعية والفسيولوجية التى سهلت استسلامهم لغواية الدم، والتى قادتهم إلى ما باتوا عليه، بل إنه أيضاً لم يتجاهل الإشارة إلى حواضن سياسية -فى الداخل والخارج- استغلت ضعف هؤلاء الأشخاص وخواءهم الروحى، فكرستهم لخوض معاركها بالوكالة. وسيحدث ذلك أيضاً مع «المجنى عليهم» أو الأطراف الفاعلة فى الأحداث، أياً كانت المواقع التى يشغلونها.

سيحصل كل طرف على حقه كاملاً فى أن يعبر عن نفسه، بل وسيكفيه «عيسى» عنت إيجاد المسوغات لإقدامه على ما أقدم عليه أو إحجامه عما أحجم عنه. سينال الجانى المفترض حقه فى ذلك، كما سينال المجنى عليه المفترض الحق ذاته، والجميع سيُزود بشهادات موثقة ومستندات لتعزيز حجته. أما الأربعة الحاضرون للشهادة باستدعاء من مُخيلة المؤلف؛ فهؤلاء سيعلقون على الأحداث بقدر افتراق مساراتهم وتباين توجهاتهم، وهم لن يكونوا بحاجة إلى تلك الأسانيد والأدلة لتسويغ مواقفهم، فهم، كما أراد الكاتب تماماً، بيننا.. نعرفهم ونراهم ونسمعهم كل يوم.

لن تأتى إليك تلك الرواية بالبهجة، ولن تُشعرك بالراحة، وكيف يحدث ذلك؟ أليست رصاصة؟ ألا يقول الناشر عنها: «قد تصدمك الحقيقة، لكنك على الأقل ستكون قد عرفتها»؟

هى رصاصة إذاً، يطلقها إبراهيم عيسى تلك المرة، لكنها لا تقتل، وإنما تنبه وتحذر، وشاهدها عوامة تتقاذفها أمواج النيل، وعلى صفحته تبلى ذكريات وأمجاد وفنون وصور.. ونسق حضارى ربما سيأبى أن يطويه الظلام.