«الوطن» تخوض المواجهة:التفكير يهزم التكفير حوارات من قلب الأرض المقدسة

«الوطن» تخوض المواجهة:التفكير يهزم التكفير حوارات من قلب الأرض المقدسة
اخلع نعليك على بابها.. فترابها من رفات شهداء الوطن.. إنها الأرض المقدسة، أرض سيناء.. ما بين الحزن والألم، وفجيعة الفقد، وفرض حالة الطوارئ، وصولاً للإجراءات الاستثنائية وإخلاء الشريط الحدودى.. تعيش «أرض الفيروز» على أعتاب التوتر والترقب الوجوه يشوبها حذر من نوع خاص، حذر ينتظر الموت ولا يأتى، وقد يأتى فجأة فى ذات اللحظة التى لم تتوقعه فيها أبداً. جنود يركبون مدرعاتهم فى مواجهة «شجاعة» مع الموت الذى ربما يأتى فىطريق «مفخخ» أو هجمة إرهابية.. الأهالى يعيشون الانتظار بكل تفاصيله.. ماذا ستفعلين بنا يا أرض سيناء أكثر مما عانيناه معك وقد كانت نفوسنا «حُبلى» بأحلامنا المشروعة منذ عشرات السنين.. لكنها لم تأتِ أبداً إلا على هيئة كوابيس وحشية لم تنتهِ حتى اليوم؟ «الوطن» فى الأرض المقدسة.. ترصد، تكشف، تقدم التعازى لأرواح شهدائنا فى مداد الحبر، تتعلق بحلم الأمن والأمان ككل المصريين، المُنتظر من بين براثن «كتلة نار مشتعلة بيد الإرهاب الأسود» استطاع أن يُلبس المصريين أكفاناً متنقلة من سيناء إلى طول مصر وعرضها.. ويقيم الحزن فى قلوب بنصف حياة، كزائر شبه دائم منذ ثورة 30 يونيو.. هناك فى تلك البقعة الدامية، فى سلسلة حوارات متصلة، يحارب «القلم» الرصاصة ويحاول أن يقاوم «الكفر» بالحبر.
قال الدكتور سامى أنور، مدير مستشفى العريش العام، إن المستشفى بطاقمه الطبى والتمريضى يعيشون أصعب 5 سنوات فى حياتهم، بدءاً من أحداث ثورة 25 يناير مروراً بأحداث ثورة 30 يونيو، وصولاً إلى إعلان حالة الطوارئ مؤخراً.[FirstQuote]
وكشف «أنور»، فى حواره مع «الوطن»، عن أن المستشفى يواجه تحديات كبيرة، ليس فقط على مستوى المسئولية الكبيرة الملقاة على عاتق العاملين به، التى ازدادت وطأتها مع فرض حالة الطوارئ، وإعلان حظر التجوال، وعدم رغبة الكادر الطبى بالمستشفى فى الاستمرار وسط هذه الأجواء، مؤكداً أن الكثيرين منهم بدأ فى الحصول على إجازات مفتوحة دون أجر، والبعض الآخر قدم طلبات نقل إلى أماكن أخرى، ما ينعكس سلباً على أداء المستشفى، وقد يصل الأمر إلى حد اختفاء الأطقم الطبية ذات الكفاءة خلال الأسابيع المقبلة.. وإلى نص الحوار:
■ ما أهم التحديات التى تواجه المستشفى فى ظل الوضع الحالى بسيناء؟
- إنه المستشفى العام الوحيد فى المحافظة، لأن أقرب مستشفى لنا على بعد نحو 250 كيلومتراً، ما يتطلب من المستشفى أن يكون جاهزاً بأطقمه الطبية فى جميع التخصصات، فضلاً عن هيئة التمريض، ونبذل مجهودات كبيرة، خاصة بعد ثورة 30 يونيو وتزايد العمليات الإرهابية، وما يترتب عليها من سقوط مصابين، الأمر الذى يجعل المستشفى فى وضع استعداد دائم تحسباً لأى حادث، باختصار يمكن القول إنها باتت «مستشفى حرب».
■ هل يتوافر فى المستشفى كل التخصصات الطبية للتدخل السريع حال اندلاع أحداث عنف؟
- بكل أسف لا، فلدينا عجز فى بعض التخصصات الدقيقة، وزارة الصحة وفرت لنا بعض التخصصات فى الآونة الأخيرة، لكن تظل هناك بعض التخصصات التى تشهد عجزاً كبيراً، مثل أطباء التخدير، فهناك عجز فى هذا التخصص بالنسبة للأطباء المقيمين، إذ لا يوجد طبيب مقيم واحد، أو إخصائى أو مساعد إخصائى، يوجد استشاريون فقط، وعددهم 2 على مستوى المحافظة ككل، وأحدهما خرج على المعاش، وطلبنا منه العودة للعمل مرة أخرى لعدم توافر بديل، ونحتاج بشكل دائم لإجراء عمليات جراحية عاجلة، لدرجة أننى فى أوقات كثيرة أذهب إلى غرفة العمليات فى الحالات الطارئة، لأننى تخصص تخدير، لإنقاذ حالة حرجة، والأصعب أن المستشفى ليس به أطباء مقيمون، أى من أبناء سيناء، فى تخصصات الجراحة، والباطنة، والمخ والأعصاب.[SecondImage]
■ ما الأسباب الحقيقية وراء هذا العجز؟
- الخوف من سوء الأوضاع الأمنية جعل الأطباء المنتدبين يفكرون ألف مرة قبل الذهاب للعمل فى شمال سيناء، فضلاً عن أنه لا يوجد عامل «جذب» للطبيب لكى يختار العمل بالمحافظة دون باقى المحافظات. وهذه نقطة فى منتهى الأهمية والخطورة، فقد صدر مؤخراً قرار من رئيس مجلس الوزراء لكادر المهن الطبية، وفى نقطة المناطق النائية للتكليفات تم وضع قانون خاص لتصنيف المناطق النائية والمحافظات بحسب بُعدها عن العاصمة، وليس بحسب الأوضاع الاستثنائية التى تعيشها المحافظة، وهذا القانون مثّل صدمة كبيرة للعاملين فى مستشفى العريش العام، فوفقاً للقرار رقم 575 لسنة 2014 يُصرف حافز مناطق حدودية لبعض فئات المغتربين فقط، فشعر العاملون بالمهن الطبية المختلفة بالظلم نتيجة القرار.
■ هل تعنى أن المحافظات الأبعد فى المسافة عن القاهرة هى التى حصلت على حافز أكبر؟
- نعم، فالذى وضع القانون صنَّف أسوان على أنها أبعد من شمال سيناء، ويحصل الأطباء المنتدبون لها على 600% من أساسى المرتب، فى حين أعطى الأطباء المنتدبين إلى شمال سيناء 450%، والقصة مش كده خالص، نحن هنا نتحدث عن مستشفى عام وحيد، عن ظروف صعبة، عن حظر تجوال يضطر معه الأطباء للمبيت بالأيام، والأدهى والأمر أن القرار منع إعطاء الحافز لأبناء سيناء من الأطباء وهيئة التمريض، ولكى يحصلوا عليه لا بد أن يبعدوا على الأقل 50 كيلومتراً عن العريش، بمعنى أنه حتى لو ذهب للعمل فى المنطقة الحدودية فى «رفح» مثلاً فلن يحصل عليه، لأن رفح تبعد 40 كيلومتراً عن العريش.[SecondQuote]
■ ماذا كان رد فعل الطاقم الطبى من أبناء سيناء؟
- للعلم، نحن المستشفى الوحيد على مستوى الجمهورية الذى لم يشترك فى إضراب الأطباء الذى حدث منذ فترة لتعديل الكادر الوظيفى، لأنهم يشعرون بحجم المسئولية وصعوبة الظروف المحيطة بالناس فى شمال سيناء، وعدم توافر بدائل أمام المرضى من الأهالى، فضلاً عن المصابين فى العمليات الإرهابية، وبالتالى لم يكن من الممكن أبداً أن يتخلوا عن واجبهم تحت أى ظرف، يضاف إلى ذلك أنهم شعروا بخيبة أمل شديدة وصلت إلى درجة الصدمة بسبب هذه التفرقة، وهو ما ترجمه زملاؤهم من المنتدبين بالقول إنهم سيرفضون هذا الحافز لكى يتساووا بزملائهم، بينما قال البعض الآخر إنهم سيقتسمونه مع المقيمين كل حسب كادره الوظيفى، كيف أقول للطبيب المنتدب فى سيناء إنه سيأخذ فقط 450% من الحافز، وأقول لأهل البلد من الأطباء «انت مش هتاخد»، كما أشير هنا إلى نقطة أخرى شديدة الأهمية، هى أن القرار صنف الطبيب المنتدب على أنه مُغترب، وهذا وصف لا يليق، لأن هذا يعنى أن المناطق النائية «مش من مصر» وجعلت البعد عن العاصمة اغتراباً، كأنه هجرة خارج الحدود، فأى أزمة معنوية نتحدث عنها، وبينهم من ظل يعمل عشر سنوات، وعشرين سنة، هذا قرار ضد المواطنة وضد الدستور الذى ساوى بين المصريين.[ThirdQuote]
■ هل حاولت مخاطبة وزير الصحة لتعديل القرار؟
- حاولت مخاطبة رئيس الوزراء ووزير الصحة، فمن حقنا أن تتم مساواتنا بحافز محافظة أسوان أو الغردقة على الأقل، فنحن نعمل فى ظل «حالة حرب» مع الإرهاب، وظروف أمنية صعبة، كما أن من حقنا أن نطلب الاستثناء، لأن العمل فى ظروف فرض الطوارئ أكثر تعقيداً ومشقة، لكننى لم أتلق رداً حتى الآن، ويجب أن أقول إن بعض الأطباء يطلبون إجازات مفتوحة بلا مرتب، وبيمشوا وبيقولوا لى «إحنا مش جايين تانى»، والبعض طلب نقله، بالإضافة إلى أن بعض شركات الأدوية بدأت تعتذر عن عدم المجىء إلى شمال سيناء بسبب خوفها من الوضع الأمنى، ما يمثل تحدياً آخر لنا فى مواجهة احتياجات المستشفى اليومية من الأدوية والمستلزمات الطبية، أنا اليوم قد أتوسل لطبيب صديق لكى يأتى ويقبل بدافع إنسانى مساعدتنا، لأنه يعرف ظروف المحافظة وظروف المستشفى وإمكانياته المحدودة، لكن بعد قليل قد لا يستجيب لى أحد، لأن الناس فى النهاية لن تترك مستقبلها الوظيفى والمهنى للعمل فى مكان لا يعطيهم أدنى حقوقهم.
■ إلى أى مدى أثر هذا القرار فى تخفيض أعداد الكادر الطبى والتمريضى فى المستشفى بعد صدوره؟
- القرار صدر قبل فرض حالة الطوارئ بفترة بسيطة، وبناء عليه فإن هناك أطباء لم يحضروا أساساً، وحينما خاطبت وزارة الصحة وسألتهم: أين الأطباء؟ قالوا لى: محدش عايز ييجى لكم، نعمل لكم إيه؟ فقلت: عندنا عجز كبير فى الأطباء، ونعمل فى منطقة نائية لها ظروف خاصة، والذى يدخل المستشفى الساعة 4 العصر لا يخرج منه إلا فى اليوم التالى بسبب حظر التجوال، ما يزيد من كمّ المسئوليات الملقاة على عاتقنا، فكيف أطلب من كادر طبى يعمل فى ظروف حرجة مثل هذه أن يعطى مجهوده بالكامل وهو لا يحصل على أقل حقوقه، مع الوضع فى الاعتبار أن باقى المستشفيات الموجودة فى المحافظة فى مدن رفح والشيخ زويد، ونخل، وبئر العبد، وهى المستشفيات العامة التى تتبع وزارة الصحة، تعمل فقط كوحدات صحية لأنه لا يتوافر فى أى منها غرف عمليات.
■ ما الحالات الصحية الحرجة التى لا تستطيعون التعامل معها؟
- إذا تطلب إجراء عملية قسطرة للقلب لمريض، مع الأخذ فى الاعتبار أن التعامل مع أى جلطة يجب أن يكون خلال 6 ساعات، فالمستشفى لن يستطيع إنقاذه، لأنه لا يملك إجراء قسطرة للقلب أو تركيب دعامة.
■ لكن المرضى من أهالى سيناء يشتكون من حظر التجوال؟
- غير صحيح، فالمستشفى مفتوح 24 ساعة، وزادت الحالات الطبية لدينا، لأننا المستشفى الوحيد الذى يعمل بعد ساعات حظر التجوال، فى حين تغلق المستشفيات والعيادات الخاصة، ومرفق الإسعاف يعمل 24 ساعة أيضاً، وسيارات الإسعاف مسموح لها بالتحرك وقت الحظر، وبالفعل تأتى لنا كل يوم حالات طارئة تحتاج التدخل الطبى العاجل فى مواعيد الحظر بلا أى مشكلات.
■ هل هناك تنسيق بينكم وبين المستشفى العسكرى فيما يتعلق بمصابى الحوادث الإرهابية؟
- نعم، ويمكن القول إننا نكمل بعضنا البعض، خاصة فيما يتعلق بإصابات الجنود والضباط، وهذا التواصل ازدادت وتيرته بعد ثورة 30 يونيو وما صاحبها من عمليات استهداف للجنود والكمائن الشرطية والعسكرية.
■ كيف تعاملتم مع حادث «كرم القواديس» الإرهابى؟
- فور علمنا بوقوع الحادث انتقلت بطاقم طبى كامل من المستشفى يتكون من 12 طبيباً، منهم 5 أطباء جراحة، و3 أطباء عظام، بالإضافة إلى 15 من طاقم التمريض، وفنيى بنوك الدم، ومعهم جميع فصائل الدم، إلى المستشفى العسكرى فوراً للوقوف بجانب زملائنا فى إسعاف مصابى الحادث الذى راح ضحيته عدد كبير من جنودنا.
■ هل تتوافر بالمستشفى أكياس الدم للمرضى باستمرار؟
- نعم، فنحن نعمل فى وضع متوتر، لهذا نحتاج باستمرار إلى أكياس الدم، وأذكر أنه فى يوم حادث تفجير كرم القواديس الناس بدأت تتشاجر مع العاملين فى المستشفى، وزعلانين لأنهم يريدون التبرع بالدم فى حين أننا حصلنا على الكميات اللازمة ممن جاءوا للتبرع بسرعة فور علمهم بالحادث، دعينى أقل إنه كان من بينهم نساء وبنات ومسنون أيضاً بعضهم يعانى من أمراض مزمنة.
■ يقال إن هناك جندياً وحيداً نجا من حادث «كرم القواديس»، لكنه تعرض لصدمة عصبية عنيفة، حدثنا عنه؟
- الرجل البدوى الذى أنقذه جاء به إلى المستشفى بعد أن ألبسه زياً بدوياً بدلاً من الزى العسكرى، وقمت بالكشف الطبى عليه، ولم يكن يستطيع الكلام عن تفاصيل الحادث، لكنه قال لنا «هذا الرجل أنقذنى»، وكان جسده سليماً، وتمت إحالته فوراً إلى المستشفى العسكرى.
■ ما أصعب الحالات التى استقبلها المستشفى فى أعمال العنف والتفجيرات الأخيرة؟
- الشيخ عيسى الخرافين، أحد شيوخ القبائل الداعمة للجيش والشرطة، وكان وضعه الصحى متدهوراً للغاية، بعد أن أطلقت عليه الجماعات الإرهابية رصاصتين فى الرأس، وأنا من استقبلته وقتها، ولحسن الحظ فإن طبيب المخ والأعصاب كان موجوداً فى نفس توقيت وصوله، فاستطاع إجراء أكثر من جراحة له لاستخراج الرصاصتين من رأسه ثم تم وضعه فى العناية المركزة إلى أن بدأ فى استرداد وعيه.