حكايات بيروت .. الحكاية الأولى: المواطن ستراك «بطل الحلول الفردية»
حكايات بيروت .. الحكاية الأولى: المواطن ستراك «بطل الحلول الفردية»
- لبنان
- وكالة أنباء الشرق الأوسط
- الخلافات السياسية
- الحوادث
- حكايات بيروت
- لبنان
- وكالة أنباء الشرق الأوسط
- الخلافات السياسية
- الحوادث
- حكايات بيروت
ارتبط اسم لبنان خلال الفترة الماضية بالخلافات السياسية والأحداث المتلاحقة والتوتر والقلق، وربما الحوادث التي تصل إلى حد الكوارث، لكن بين كل هذا هناك أبطالا لا يتحدث عنهم أحد ولا تُكتب أسماؤهم باللون الأحمر في عناوين عاجلة على قنوات الأخبار ولا تتصدر قصصهم مانشيات الصحف ولا يُشار إليهم في منشور يحصل على آلاف المشاركات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي.
هؤلاء وغيرهم من أصحاب الحكايات اليومية وبطولات المعيشة ومواجهة الأزمات، ستجد قصصهم هنا تباعاً.. في "الوطن".
الحياة في لبنان عكس السياسة
حينما بدأت عملي كمدير لمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط في لبنان أواخر مايو الماضي، كان لبنان على أعتاب فترة عصيبة هي الأشد ضراوة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية في تاريخ لبنان.
ويكفي أن نعود لأرشيف وكالة أنباء الشرق الأوسط لنعرف ماذا حدث بالضبط.. ولكن بعيدا عن السياسة، كان هناك أبطال لكثير من الحكايات التي أبدأها مع مواطن مُلهم يدعي «ستراك».
ستراك قيومجيان هو مواطن لبناني في النصف الأول من عقده الخامس. ويبدو أن اسمه يثير الفضول لمعرفة ديانته، لكن هذا لن يهم، لأن الحياة في لبنان حاليا عكس السياسة، إذ أن قطاعا كبيرا من الشعب يؤمن أن الدين لله والوطن للجميع. ويكفى أن نقول في البداية أن «ستراك» عايش في طفولته أجواء الحرب الأهلية بلبنان قبل أن يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة 20 عاما تقريبا.
شكل الحياة في لبنان بعد عودة ستراك إليها
والده كان مهندسا ميسور الحال وله العديد من المشروعات في لبنان وعدد من دول الخليج، وله أخ وحيد يشاركه إرث والده الذي وافته المنية قبل سنوات.
«ستراك» قرر العودة للبنان منذ حوالي 12 عاما تقريبا لرعاية والده ووالدته، وأتى بمدخراته إلى وطنه، بعدما قرر ترك عمله البحثي في أمريكا والاستقرار في لبنان ليبني بيتا ويحقق أمل والدته بالزواج وأقام في شقة بنفس البناية التي أعيش بها بلبنان والتي تعد نموذجا مصغرا للبنان بتنوعه الفريد، كما التحق بعمل في الجامعة الأمريكية ببيروت قبل أن يتركها مع بداية الأزمات في البلاد.
ستراك يواجه الأزمات.. لا بنزين ولا كهرباء
مرت الأيام الأولى لـ «ستراك» في لبنان وبدأت الأزمات تتفاقم يوما تلو الآخر حتى بلغت ذروتها في الصيف الماضي، فلا بنزين ولا كهرباء حكومية ولا مازوت لتشغيل مولدات الكهرباء الخاصة بالبنايات ولا مولدات الكهرباء التجارية ولا مياه حكومية (لعدم وجود كهرباء لتشغيل المحطات) ولا أدوية ولا سلع أساسية. والأخطر أنه لم يكن هناك مجرد أمل في انهاء الخلافات السياسية التي تعرقل تشكيل حكومة بصلاحيات كاملة تتسلم إدارة البلاد من حكومة تصريف الأعمال التي استمرت لفترة تاريخية بلغت 13 شهرا في إدارة البلاد بأصعب مراحلها بصلاحياتها محدودة.
وخلال تلك الفترة العصيبة كان الأمل دائما في الحلول الفردية والتي كان بطلها المواطن ستراك!
في عز الأزمة بلبنان كانت البناية التي يسكنها «ستراك» لا تعرف معنى العتمة، ولم تنقطع عنها المياه، ولم يشعر ساكنوها بالمعاناة التي عاشها قطاع كبير من سكان لبنان سواء مواطنين أو وافدين. لم يكن «ستراك» شخص ذو نفوذ ولا يحظى بعلاقات تجعله فوق الجميع بل هو مواطن مثله مثل كل من عاش في لبنان على مدار السنوات الماضية يعاني من التدهور غير المسبوق في سعر العملة المحلية وارتفاع الأسعار كما أن "مصرياته" محتجزة في البنوك ولا يستطيع التصرف في دولار منها. ومع ذلك كان ولا يزال ستراك يصل الليل بالنهار لإيجاد حل لكل أزمة.
رحلة البحث عن لتر مازوت
ما حدث أن «ستراك» في كل صباح كان يجوب لبنان شمالا وجنوبا شرقا وغربا بحثا عن لتر مازوت، وفي نهاية كل يوم يأتي بحصيلة ما جمعه من لترات ليفرغها في خزان مولد الكهرباء الخاص بالبناية حتى لا تنقطع الكهرباء حتى اليوم الذي يليه! لم يكن «ستراك» يعاني من نقص البنزين، لأنه تعلم في أمريكا فضيلة الاعتماد على السيارات الكهربائية واقتنى منها قدر ما استطاع. واستغل هذه الميزة في الانطلاق يمينا ويسارا بكل بساطة وسهولة عبر سيارة تشحن بطارياتها الكهربائية عن طريق الحركة.
ولم يعاني الرجل من انقطاع المياه لأن البناية لها بئر مياه خاص تعمل عليه مواتير يقوم ستراك بصيانتها بنفسه بالإضافة إلى صيانة مولد الكهرباء وكل ما يخص البناية بيده! إنه يعرف بمنتهى الدقة مكان كل لمبة وسلك ومسمار في البناية، بل وصنع لكل شيء رسما هندسيا ووضع له خطط أساسية وأخرى بديلة.
وفي كل أزمة يواجهها البلد، دائما ما كانت تنجو منها بنايتنا بفضل المواطن ستراك ودعم الغالبية العظمى من السكان له وتقديرهم لجهوده واصطفافهم خلفه وتفهمهم الكامل.
حكاية يوم 28 يونيو في مستشفى الحريري
في يوم 28 يوينو الماضي، غرد مدير مستشفى رفيق الحريري الحكومي الدكتور فراس الأبيض – وزير الصحة اللبناني حاليا – قائلا: «وضع تغذية الكهرباء للمستشفى غير مقبول، واستمر الانقطاع استمر لأكثر من ٢١ ساعة في اليوم. الفيول غير متوفر، وإذا توفر، نعاني مشاكل سيولة، والمرضى لا يستطيعون تغطية الفروقات. أخذنا قرارا بايقاف أجهزة التكييف باستثناء الأقسام الطبية رغم موجة الحر، ولا داع لاستعمال المخيلة أو للتهويل، نحن في جهنم حقا».
تلقى «ستراك» هذه التغريدة وهو في إحدى مناطق الشمال اللبناني يبحث عن لترات مازوت، وكان لتوه قد جمع قرابة 350 لترا من عدد من المحطات، فتوجه على الفور إلى مستشفى رفيق الحريري ليتبرع بحصيلة يومين من البحث لخزانات المستشفى التي أصابته بصدمة كبيرة بمجرد وصوله إليها. فما يحمله من لترات ما هى إلا نقطة في بحر كبير تحتاج إليه المستشفى.
عاد «ستراك» إلى بيته حزينا ليقرأ في صباح اليوم التالي تغريدة للدكتور فراس الأبيض جاء فيها: «بالأمس، تم تسليم مادة الديزل إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي بفضل الجيش (5000 لتر) وCoral (15000 لتر). إن دعمهم محل تقدير كبير لنا. وتبرع أيضًا أحد الأفراد (ستراك) بـ 350 لتر، تمكن من الحصول عليها من عدة محطات في منطقة الشمال. لقد عجزنا عن الكلام أمام سلوكه المبهر هذا الذي أظهر تفانيه تجاه الآخرين».
واعتبر الأبيض أن سلوك ستراك لم يعط المستشفى مجرد وقود، بل أعطى الوطن بأكمله الأمل في غد أفضل ومستقبل أفضل. لم يتأخر «ستراك» يوما عن أحد مهما كان، وشاركت شخصيا - من منطلق المسئولية تجاه المجتمع الذي نعيش فيه - بعدد من المبادرات التي يطلقها لمساعدة المحتاجين، وخصوصا الأطفال والمرضى المسنين بمختلف المناطق بلبنان.
وعن تجربة، لن أبالغ إن قلت إن السبب الرئيسي في بقاء هذا البلد متماسكا وصلبا أمام التحديات هو وجود «ستراك» والعشرات بل المئات وربما آلاف من أمثاله بدرجات متفاوته. إن هذه الحكاية ليست عن فرد جمعتني به الظروف ليكون جارا أو صديقا، ولكن الحقيقة هي عن فكرة يحيا بها اللبنانيون في مواجهة أعتى الظروف، فكرة تثبت دائما أن لبنان بخير حتى وإن كانت الظروف السياسية عكس ذلك، فكرة تؤكد أن بيروت بشعبها وأهلها أبدا لن تموت.