قطاع الاتصالات والمعلومات: «البوسطة» تسود.. . و«الفكرة» تغيب

كتب: جمال محمد غيطاس

قطاع الاتصالات والمعلومات: «البوسطة» تسود.. . و«الفكرة» تغيب

قطاع الاتصالات والمعلومات: «البوسطة» تسود.. . و«الفكرة» تغيب

حينما تعيش البلاد فترة تحول بعد «ثورتين» ثم يكون نصيب «التفكير والتخطيط للمستقبل» هو 2.3% فقط من أنشطة وزارة الاتصالات خلال ما يناهز الأربع سنوات، فهذا يعنى أن الوزارة فى فترة ما بعد يناير كان يديرها وزراء أقصى ما أمكنهم اتخاذه من قرارات هو إطفاء نار الغضب التى اندلعت هنا، أو حالة الانفلات والاضطراب التى انفجرت هناك، مع تسيير دولاب عمل كان يدور من قبل، ولم يجلس أحد منهم ليخطط لواقع جديد، أو ليدشن توجهات مختلفة يزرعها بهدوء وذكاء فى دولاب العمل القائم منذ ما قبل 25 يناير، ليحدث تحولا نوعياً وأداء مختلفاً، أرقى فى المستوى وأعلى فى القيمة. نستند فى هذه النتيجة إلى الأرقام التى كشف عنها تحليل البيانات والأخبار الصادرة عن الوزارة، وتناولناها بالعرض الأسبوع الماضى، وملخصها بسرعة أن 26.6% من أنشطة الوزارة كانت مقابلات ولقاءات واجتماعات رسمية، وتصريحات فى الأمور العامة واليومية، و26.4% منها كانت الأنشطة المتعلقة بالتسويق والترويج وبناء الصورة الذهنية، و15.2% تخص تطوير البنية المعلوماتية العامة للدولة، و9.5% متعلقة بالتعليم والتدريب والبحث والتأهيل فى المركز الرابع، ثم الاستثمار وتنمية الصناعة بنصيب 8.4%، والمشاركة فى الشئون الدولية 8.9%، والتعامل مع القطاع الخاص والمجتمع المدنى 2.7%، ثم الرؤى والأفكار الجديدة فى المركز الأخير بنسبة 2.3%. بالتدقيق فى هذه الأرقام يتضح أن 79.8% من أنشطة الوزارة، كانت أنشطة محكومة بعقلية أو طريقة «البوسطة» التى يحملها المساعدون والبيروقراطيون للوزير، وهى مستسلمة تماماً للروتين وتوقيع الأوراق وإصدار الأوامر على المستوى اليومى وربما الأسبوعى، بغض النظر عما إذا كانت هناك رؤية موضوعة أو خطة تنفذ أو توجه يجرى البحث عنه أو تطويره، وهذه النسبة تشمل الأنشطة الروتينية والتسويق والصورة الذهنية والعلاقات الدولية الرسمية، والتعامل مع مؤسسات المجتمع المدنى. أما الأنشطة التى يمكن أن يكون لها ارتباط غير مباشر بالخطط والاستراتيجيات والرؤى فشكلت حوالى 18% فقط، وضمت أنشطة فى التعليم والبحث والإبداع والتأهيل والاستثمار وتنمية الصناعة المحلية، أما الأنشطة التى كانت وظيفتها الأساسية وضع الأفكار والبحث عن التوجهات الجديدة فقد شكلت 2.3% فقط. معنى ذلك إجمالاً أنه حدثت سيطرة لعقلية «البوسطة»، وتجلى ذلك فى غياب رؤية أو خطة أو هدف واضح للوزارة فى فترة ما بعد يناير، مقارنة بما كان سائداً قبل يناير، وللتوضيح أقول إنه منذ مطلع 2000 وحتى 2006 كانت الوزارة محكومة برؤية لخصها الدكتور أحمد نظيف فى جملة قصيرة حال توليه منصبه كوزير للاتصالات فى نهاية 1999 بقوله «نحن رجال السلك والجهاز»، وكان يقصد بها أن مهمة الوزارة هى نشر خطوط الاتصالات وتحديث البنية التحتية لشبكة الاتصالات العامة، وتوسيع نطاق استخدام المحمول ورفع أعداد الحاسبات ونشرها بالمجتمع وتنفيذ سلسلة من برامج التدريب على التكنولوجيا للشباب، سواء خريجين أو بمراحل مختلفة من التعليم، لزيادة عدد الكوادر المدربة، وتعزيز خدمات الإنترنت، وتأهيل شركات تكنولوجيا المعلومات. ترتب على هذه الرؤية أن قطاع الاتصالات والتكنولوجيا نما نمواً كمياً فى السنوات التى تلت ذلك، فزاد عدد الخطوط والحاسبات المباعة وأرقام المستخدمين للإنترنت وخلافه، وقد اختلف كثيرون وأنا منهم مع هذه الرؤية، لأن النمو الكمـى انتهى إلـى عشــرات الآلاف من الشباب الذين حصلوا على التدريب أو أعيد تأهيلهم ولم يجدوا الوظيفــة، وشبكات اتصالات أصبحت أشبه بالطرق الســـريعة التى لا تتمتع بكثافة مرور كافية بسبب ضعف المحتوى، وشركات برمجيات لديهــا منتجات لا تعرف كيف تسوقهــا، ومؤسســات مالية تحجم عن تمويل أنشطة عديدة، فــى مقدمتها أنشطة البرمجيات، وصورة ذهنية عالمية مشوشة غير واضحة. وفى عام 2007 ظهرت بعض المؤشرات الدالة على أن الوزارة بصدد تنفيذ استراتيجية مغايرة لفكرة «السلك والجهاز»، منها التركيز على الاستثمار فى مراكز وخدمات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وبحلول عام 2008 بدأت الوزارة تعتبر أن مصر قد تراكم لديها من الخبرات العملية والقدرات التقنية والعلاقات المتطورة مع اللاعبين الكبار فى هذه الصناعة عالمياً، ما يجعلها تتجاوز كونها مجرد سوق لتصريف منتجات وخبرات الآخرين ومستهلك للتكنولوجيا أو منتج لبعض أشكالها البسيطة، إلى كونها طرفاً قادراً على أن يشارك بعض اللاعبين الكبار فى إبداع أحدث وأعقد التكنولوجيات، وأن تكون أيضاً مصدراً للخبرات وقاعدة لتقديم أرقى أشكال خدمات تكنولوجيا المعلومات، بعبارة أخرى كان بوسع العديد من مسئولى الوزارة أن يتحدث مطمئناً إلى أن مصر لم تعد «جيباً» يدفع أموالاً مقابل منتجات أو خدمات سريعة سطحية، بل عقل قادر على أن يضخ إبداعاً وخبرة فى إطار مشاركات حقيقية، وفى مارس 2010 كان طارق كامل وزير الاتصالات وقتها يعد العدة لإطلاق رؤية جديدة متكاملة تعتمد على أن قطاع تكنولوجيا المعلومات مصدر للإبداع على المستوى المحلى والدولى. بعد أحداث يناير.. كان المتوقع أن تعيد الوزارة تقييم الموقف، وتعلن صراحة عما تريده، وما الذى يمكنها القيام به فى ظل هذه التغييرات الجارفة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، فقد تبخرت الرؤى التى كانت قيد التنفيذ قبل الأحداث، وطارت الاستراتيجية المتكاملة للإبداع فى الهواء، خاصة بعد بتر جامعة النيل وإخراجها من منظومة القطاع، إثر عملية اغتصاب مؤسسى وفكرى وتنظيمى وعلمى قاسية أقرب إلى الجنون، نفذها مشروع زويل ومن يقفون خلفه، تحت ستار حملة تركت العلم بأمريكا وحقنت الوطن بشخابيط العلاقات العامة. وفى المقابل.. لم تقدم الوزارة أى رؤى أو خطط تعلو فوق منطق «البوسطة»، وظل القطاع بلا فكر أو رؤية لما يزيد على ثلاث سنوات، ولولا ما حدث خلال الأشهر الأخيرة من إرهاصات دالة على العودة للتفكير، لكان منطق البوسطة قد توحش، وانتقل من الحضور الكثيف إلى السيادة المطلقة، وحدث توقف عبثى لما كان إيجابياً قبل يناير على قصوره وقلته، واللافت للنظر من الأرقام التى كشف عنها التحليل أن أداء الوزراء الخمسة الذين تولوا المسئولية فى هذه الفترة كان متفاوتاً من حيث الانصياع للبوسطة أو الفكاك منها، وهو ما نتناوله الأسبوع المقبل.