الـ«تليميديسين».. هدية «كوفيد» التى لم نستغلها بعد!
ربما كان «كوفيد» هو أسوأ ما واجه البشرية كلها فى العصر الحديث.. لكنه فى الوقت نفسه كان سبباً رئيسياً فى العديد من التغيرات السياسية والمجتمعية بل والطبية أيضاً التى لا يمكن وصفها كلها بالسيئة إن كنا نبتغى الإنصاف..!
فى رأيى أن خدمة من أفضل الخدمات التى قدمها زمن «كوفيد» لمهنة الطب هى تلك القنوات الرقمية التى تأسست وظهرت بين الناس لتشخيص وعلاج حالات «كوفيد» عن بُعد.. لم أعرف طبيباً واحداً فى العالم فى كل التخصصات لم يستقبل على هاتفه المحمول أشعة صدر واحدة على الأقل خلال العامين الماضيين.. ولم يمنح استشارة طبية لمريض عبر تطبيق الواتساب خلال فترة العزل العالمى سواء كانت تلك الاستشارة فى تخصصه أو خارجه..!
لقد تمكن «كوفيد» من تطوير أحد أهم العلوم الطبية التى كان القطاع الطبى يحلم بها عبر عقود طويلة مضت.. ربما منذ بداية ظهور الإنترنت.. هذا العلم الذى كنا نطلق عليه «تليميديسين» telemedicine.. الذى نفذه أطباء العالم ومرضاه عندما استدعى الأمر بسهولة ويسر.. ودون أى معايير أو نظريات تطبيقية من التى ملأت صفحات الكتب والمراجع..!
لقد أصبح سهلاً أن يشترك أطباء دولة مع أطباء آخرين يقيمون فى دولة أخرى فى نقاشات طبية حول حالات مرضية.. بل وأصبح يسيراً أن يعاينوا ملفات المرضى ويطرحوا المقترحات.. ويسهموا فى تحديد الاستراتيجية العلاجية..!
فى الطب وحده لا يمكن تطبيق معيار واحد لكل المرضى المصابين بنفس المرض.. فالطبيب لا يشبه الطبيب ولو كانت دراستهما متطابقة.. والمريض يختلف عن غيره فى كثير من معايير التقييم.. حتى المرض لا يشبه نظيره إن ظهر فى مكان آخر أو درجة حرارة مختلفة.. ولهذا ظهر للنور مصطلح evidence based medicine، الذى تعارف الناس على تعريبه بـ«الطب القائم على الدليل».. وهو يعنى أن عملية العلاج لا تشتمل على الدراسات والتوصيات العلمية وحدها.. بل تضاف إليها الخبرة الشخصية وتفضيلات المريض.. فتطبيق الدلائل الاسترشادية وحدها لعلاج حالة مرضية يجعل من الطب كتاباً فى التطريز..!!
لقد مكنت تكنولوجيا الاتصالات أن تمنح الجميع الفرص فى استشارات طبية بمعزل عن الظرف المكانى أو الزمانى للمريض والطبيب.. بل إنها منحت شباب الأطباء الفرصة فى صقل خبراتهم بسؤال الأجيال الأكبر حول حالاتهم المرضية.. وهو ما يفترض أن يمنحهم ثقة أكبر.. لقد أصبح هناك من يحمى ظهرهم عن بُعد إن وقعوا فى أزمة تشخيص وهم بمفردهم..!
الطريف أن الاستشارات الطبية عن بُعد هى خدمة مجانية قام الأطباء بمنحها للناس فى ظل أزمة عالمية.. ولكنها تحولت إلى حق مكتسب بعد ذلك.. أذكر أننى اشتركت ضمن مجموعة من الأطباء لمنح استشارات طارئة عبر تطبيق الواتساب خلال فترة العزل.. ولكننى ما زلت أستقبل العديد من الرسائل حتى هذه الأيام.. والطريف أن معظمها لا يندرج تحت بند الطوارئ بأى حال..!
أعتقد أن الأمر قد أصبح يحتاج للتقنين من خلال قنوات رقمية محددة مدفوعة الأجر.. وعبر وسائل تمكن الطبيب من التواصل مع نظيره فى مكان آخر للاستفادة من خبرة طبية يحتاجها.. ربما كان تطبيقاً يتم إصداره ضمن منظومة التأمين الصحى الشامل الجديد يؤدى ذلك الغرض.. ويحقق جودة عالية ومتميزة للخدمة الطبية التى يتم تقديمها من خلاله.. أو هكذا أعتقد!