مصنع الكهنوت 2.. "ثقافة النقد وتغليب العقل"
أتعجب دوما من الهجوم الشرس لهؤلاء الذين يختلفون معك فيما يتعلق بآرائك الدينية، فضلا عن تكفيرك واتهامك بالهرطقة ومحاولة تدمير الدين والأمة، تلك الاتهامات التي كانت ولا تزال نوطا على صدر كل من حاول أن يضرب بمدرسة ابن تيمية وابن حزم عرض الحائط، ويختار تغليب العقل على النقل بدأ من ابن رشد وعلي عبد الرازق وحتى إسلام البحيري ومحمد الدويك، وغيرهم من المستنيرين أصحاب العقول المتدبرة، لماذا استحللنا مقابلة الأفكار الدينية الجديدة بكل فظاظة في حين أن الله سبحانه وتعالى أمر سيد الخلق ألا يكون فظا غليظ القلب حتى لا ينفض الناس من حوله، تماما كما قال تعالى في سورة النحل "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"، كما قال تعالى في سورة الغاشية "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر"، تأمل تلك الآية حينما يقتصر الله سبحانه وتعالى دور الرسول عليه الصلاة والسلام للتذكير فقط، فما بالنا نحن نهاجم ونكفر ونبرر تلك التكفير والفظاظة بالغيرة على الدين، لا بد أن ندرك أن القرون السابقة قد شهدت آلاف الحروب التي اندلعت باسم دين حرم سفك الدماء وإراقتها، وأنه آن الآوان لنعيد حساباتنا فيما يخص فهمنا للخطاب الديني وما به من ثوابت عقائدية وعبادية ومتغيرات دنيوية تتغير مع اختلاف الزمان والمكان، فالرسول محمد هو من قال "ما أمرتكم به من أمر دينكم فخذوه عنه، وما أمرتكم به من أمر دنياكم فإنما أنا بشر".. وفي رواية: "بشر أصيب وأخطئ"، وقال أيضا "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، القول بأن هناك متغيرات في الخطاب الديني قولا ثابتا قطعيا لا جدال فيه، بقي فقط أن نتقبل سويا الاختلاف وأساليب النقد.
يوم الأربعاء الماضي، نشر لي مقال بعنوان "مصنع الكهنوت..لماذا يغضب البعض من شعار حسبنا كتاب الله"، وأود أن أعتذر إن كنت قد أسأت توصيل المغزى أو الفكرة وراء مقالي، فقد قررت أن أعاود الكتابة لأؤكد أنني لا أدعي كذب كل الأحاديث التي تم جمعها بواسطة البخاري وأبي هريرة وغيرهم، ولا أدعو لعدم العمل بالأحاديث النبوية وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن ما حاولت أن أسلط الضوء عليه هو إعمال العقل والمنطق وتغليبهم على الاتباع والنقل في أثناء الأخذ من تلك الكتب لكي لا تختلط المفاهيم ويحدث-وقد حدث بالفعل- ما تخوّف منه الرسول والصحابة من التباس الأحاديث مع النصوص القرآنية سواء لضعف بعضها أو لفهمها المغلوط وعزلها عن السياق.
بمناسبة العزل عن السياق دعني عزيزي القارئ أن أذكرك بقصة أو أسطورة هذا الفيلسوف الفارسي الذي اعتاد جمع طلابه وكل من آمن به ليلقي عليهم بعض الفلسفات والتأملات الروحانية، فأحبوه وذاع صيته في كل البلاد، إلى أن جاء يوما ورأى أحد طلابه يرتجف بردا فنصحه بأن يرتدي معطفا من الصوف ليشعر بالدفء، فما كان للطلبة إلا أن جلبوا جميعا معاطفهم وارتدوها، وفي ذات يوما نام الفيلسوف ألف عام ليستيقظ ويجد كل من يعرفهم قد ماتوا منذ قرون عديدة وأن فلسفته وتعاليمه قد تحولت إلى دين وقد أصبح هو شخصيا إله، نظر حوله وتساءل عن سبب ارتداء الجميع معاطف من الصوف رغم أنهم في فصل الصيف، وما لبث أن لاحظ أحدهم أنه لا يرتدي معطفا فأمسك به وألقاه في سجن المدينة ليحاكم فيما بعد بتهمة الكفر لعدم ارتدائه معطفا من الصوف!!
التأثيرات السلبية على المجتمع برمته كنتيجة لعزل النص من سياقه وعدم البحث وراء أسباب نزوله وهل تلك الأسباب لا زالت قائمة أم تلاشت، قادرة أن تهدم القيم والمبادئ الذي كان يدعو لها نفس المجتمع في بداية الأمر.
وللأسف ما نراه الآن من تكفير وقتل باسم الدين ولجوء بعض رجال الدين لألفاظ بذيئة للدفاع عن الدين ما هو إلا نتيجة طبيعية ومنطقية جدا لعزل النص عن سياقه وعدم إعمال العقل في أثناء التعامل مع النصوص الدينية وتعمّد اللجوء للنقل كأقصر وأسهل الطرق حيثُ نجد الآن في رجال الدين من برر استخدامه لتلك الألفاظ بأن هناك من استخدمها من الصحابة!
متى يدرك المجتمع أهمية وجود الرأي والرأي الآخر، وأن الرأي الواحد لا يبني مجتمعا ولا حتى دينا؟! متى يدرك المجتمع أن الاختلاف والنقد والمناقشة سوف يؤدوا في النهاية إلى مزيد من المعرفة والتنوير، كفانا توهما بأن كل من يحاول أن يغرد خارج السرب فهو كافر فاجر يحاول هدم الدين، ألم يأن الآوان لندرك أن العقلية النقدية هي سر تقدم الشعوب وهي من أهم ما دعا إليه ابن رشد قبل تكفيره وحرق كتبه؟ ألم تلاحظ تأثير فلسفته على فلاسفة الغرب التي أثرت فيما بعد على المجتمع برمته وساهمت في تنويره؟؟ كفانا هجوما وشراسة وضراوة على كل فكرة غريبة على آذاننا وأذهاننا، فالله وحده هو من يعلم بنوايا عباده وهو وحده من شاء للإسلام أن ينتشر هكذا خلال أكثر من ألف عام وإن كان لك دورا في حمايته والدعوة إليه فبأخلاقك وسلوكك تصبح خير ممثل وداع لدينك.