أين أبطال قضية «طب أسنان الجاموس»؟!

شىء مفرح أن ينتصر القضاء للعدل والحق، وأن يقتص للمظلوم، ولكن الفرح لا يكتمل أبداً، إذا ظل الجانى طليقاً، يواصل صعوده المهنى ويجنى مزيداً من المنافع دون أن يطاله أى عقاب، ودون أن يفكر حتى فى الاعتذار عن الأكاذيب التى اصطنعها وقدمها للمحكمة لتضليل العدالة أثناء نظر القضية!

ويوم الأحد الماضى - 14 نوفمبر 2021 - أعادت المحكمة الإدارية العليا إلى الأذهان واحدة من أهم القضايا التى تداولتها محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية عام 2015، وأصدرت فيها حكماً قضى بإغلاق كلية طب الأسنان بجامعة دمنهور، وإلزام وزير التعليم العالى والمجلس الأعلى للجامعات بتحويل 320 طالباً وطالبة إلى الكليات المناظرة فى جامعات الإسكندرية وطنطا وكفر الشيخ والمنصورة، مع عدم المساس بالمراكز القانونية التى اكتسبها هؤلاء الطلاب فى اجتيازهم الامتحانات السابقة على صدور الحكم.

آنذاك كان طلبة كلية طب الأسنان بجامعة دمنهور يتوزعون على السنتين الأولى والثانية بالكلية، وكان طلبة السنة الثانية تحديداً قد اكتشفوا أنهم تعرضوا لعملية نصب ممنهجة، فقد اجتازوا السنة الأولى والتيرم الأول من السنة الثانية دون أن يروا معملاً أو أجهزة، وأدركوا أنهم لو صمتوا ولم يعترضوا على هذا الوضع فسوف يتخرجون فى الكلية كما دخلوها، ولن يجرؤ أحد منهم على ممارسة مهنة طبيب أسنان وهو لم ير طيلة سنوات دراسته معملاً ولا جهازاً ولا أطقم أسنان ثابتة أو متحركة ولم يلمس بيده أو يتعامل مع أدوات حفر أو تنظيف أو أى معدات تؤهله للعمل بشهادته. وقد حاول عدد كبير من الطلبة أن يقوموا بالتحويل إلى الكليات المناظرة فى الجامعات الأخرى، ولكنهم عجزوا تماماً لأن الكليات الأخرى كانت مكتظة بطلابها ولا توجد بها أماكن لمزيد من الطلاب.

وخلال العامين الدراسيين 2013-2014، و2014-2015، لجأ الطلاب إلى رئيس جامعة دمنهور واحتجوا على عدم وجود مبنى مخصص لكلية طب الأسنان، وأن المبنى الذى وفرته الجامعة كان مجرد سكن لطالبات كلية الآداب، كما احتجوا على عدم اكتمال هيئة التدريس بالكلية ووجود نقص فادح فى أعضاء الهيئة، وعدم وجود معامل أو أجهزة، فما كان من رئيس الجامعة آنذاك - وهو أستاذ أمراض دواجن أساساً - إلا أن أصدر قراراً شفهياً بتوفير أماكن لتدريس العملى فى حظائر كلية الطب البيطرى بنفس الجامعة، ووجد الطلاب أنفسهم يتعلمون مبادئ طب الفم والأسنان على نماذج حية من الجاموس والأبقار!

ولا أحد يعرف كيف اهتدى طلاب السنة الثانية ومعهم طلاب السنة الأولى، إلى فكرة رفع قضية أمام محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية - دائرة البحيرة - وعندما بدأت المحكمة أولى جلسات نظر القضية فوجئ الطلاب بأنهم أصبحوا فى مرمى نيران لا يرحم من الكلية والجامعة والمجلس الأعلى للجامعات، وبعد عدد من لقاءات الترغيب التى وصلت إلى حد تقديم وعود بالتساهل معهم فى كل الامتحانات، لجأ أستاذ طب أسنان وعميد سابق لأهم كليات طب الأسنان، إلى تهديدهم بالتشريد إذا لم يتنازلوا عن الدعوى، وفى موعد الجلسة التالية لنظر القضية فوجئ هذا الشخص ومعه وزير التعليم العالى آنذاك ورئيس الجامعة بأن الطلبة قدموا «فلاشة» لهيئة المحكمة مثبت بها كل محاولات الترغيب والتهديد.

كانت طلبات الطلبة تتركز فى شيئين لا ثالث لهما، إما أن توفر الجامعة فوراً مبنى حديثاً به كل المعامل والأجهزة والمجسمات والمختبرات، أو تلزم المحكمة المجلس الأعلى للجامعات بتحويلهم إلى كليات مناظرة فى أقرب الجامعات إلى سكن كل طالب منهم. وخلال مداولات القضية لجأت جامعة دمنهور إلى مغالطات وأكاذيب شديدة الخطورة لتضليل المحكمة، كان من بينها محاولة الإيحاء بأن الـ320 طالباً وطالبة انساقوا وراء دعوات مشبوهة لإحداث الفوضى فى الجامعات المصرية، ثم سارع محامى الجامعة إلى تقديم حافظة مستندات ملفقة تثبت وجود مبنى حديث للكلية مزود بأحدث المعامل والأجهزة. فإذا بالطلبة يحصلون على صورة من مستند رسمى يطالب فيه رئيس الجامعة باعتماد مبلغ 600 مليون جنيه لتجهيز مبنى لكلية طب الأسنان، ويعترف فى الخطاب بأنه اضطر إلى قبول طلبة فى العامين الماضيين حتى يخفف العبء على مكتب التنسيق على الرغم من عدم وجود مبنى للكلية وعدم وجود أى أجهزة أو معامل خاصة بتدريس طب الفم والأسنان!

كانت الأيام والأسابيع تمضى، وكان على رأس الدائرة التى تنظر القضية المستشار محمد عبدالوهاب خفاجى، نائب رئيس مجلس الدولة حالياً، وكان الفريق القانونى المكلف بالدفاع عن جامعة دمنهور يبذل أقصى ما يستطيع ويطلب التأجيل للاطلاع على المستندات، والتأجيل لتقديم مستندات جديدة، وكان رئيس جامعة دمنهور وعميد طب الأسنان بالجامعة، على يقين بأن الأيام ستمر والعام الدراسى سينتهى دون حسم للقضية، وإذا بالمستشار خفاجى يحجز القضية للحكم، ثم يصدر حكمه يوم 5 أبريل 2015 بإلزام المجلس الأعلى للجامعات بتوزيع طلاب طب أسنان دمنهور على وجه السرعة، بالكليات المناظرة فى الجامعات الحكومية الأخرى.

وبعد أن انتهى الحكم من حماية المراكز القانونية للطلاب، انتقل إلى تعليق المسئولية السياسية والأدبية فى رقبة وزير التعليم العالى والمجلس الأعلى للجامعات ومجلس جامعة دمنهور، حيث قال نصاً: «إن وزير التعليم العالى تعدى على اختصاص مكتب التنسيق وقام بتحويل الطلاب لطب أسنان دمنهور بحجة الضغط الاجتماعى، وهو يعلم أن المبنى المخصص لهم كان مجرد سكن لطالبات كلية الآداب، خالٍ تماماً من المعامل والتجهيزات، وهو بتصرفه هذا تجاوز حدود مسئولياته وعبث بمستقبل الطلاب»!

وأضاف الحكم فى حيثياته: «لقد ألزم القانون المنظومة المسئولة عن التعليم بدءاً من وزير التعليم العالى وأعضاء المجلس الأعلى للجامعات وأعضاء مجلس الجامعة ولجنة الأجهزة والمختبرات، بتزويد الكلية بكافة الأجهزة والمعامل والمواد اللازمة سنوياً قبل وضع مشروع الموازنة بوقت كافٍ، ولكن كل هؤلاء قد تخلوا عن واجبهم الدستورى والوطنى وارتكبوا إثماً فى حق هؤلاء الطلاب، بأن حولوا كلية طب الأسنان من كلية عملية إلى كلية نظرية خاوية على عروشها من المعامل والأجهزة، وتلك كارثة تعليمية، لأنه بدون هذه التجهيزات تصبح دراسة طب الأسنان هى والعدم سواء».

وبعد يوم واحد من صدور الحكم تسرع رئيس الجامعة وانتقد الحكم قائلاً: «المحكمة أخذت بكلام الطلبة ولم تنتقل للكلية لمعاينة المعامل».. وإذا بطوفان من صور المبنى وحظائر الجاموس التى يتدرب فيها طلبة طب الأسنان تنتشر على صفحات الفيس بوك، الأمر الذى اضطره إلى صرف النظر تماماً عن الطعن على الحكم أمام الإدارية العليا، ثم صرح بعدها بأيام لعدد من مواقع الصحف بأن فتح الكلية كان غلطة كبيرة، وأنه تم الضغط عليه من المجلس الأعلى للجامعات لقبول دفعتين فى كلية لا يوجد لها مبنى ولا أعضاء هيئة تدريس وأنه اضطر لاستيعاب الطلبة فى مبنى سكن طالبات كلية الآداب!

ولكن ما الذى أعاد هذه القضية لتتصدر مواقع الصحف صباح يوم الأحد الماضى، أى بعد مرور أكثر من 6 سنوات من الحكم فيها؟!، وبعد تخرج كل الطلبة والطالبات من طب أسنان جامعات الإسكندرية والمنصورة وطنطا وكفر الشيخ؟. والإجابة أن الطلبة والطالبات عاشوا طيلة هذه السنوات وليس بحوزة أحد منهم حكم قضائى نهائى وبات بأنهم درسوا طب الأسنان مثل غيرهم من الخريجين، وقد انتظروا حتى تخرج آخر طالب وتقدموا بطلب إلى الإدارية العليا، للحصول على شهادات بالحكم النهائى لكل منهم، وقد استجابت الإدارية العليا لطلبهم وأصدرت حكمها يوم الأحد الماضى باعتبار الحكم باتاً ونهائياً.

وخلال تجدد الفرح بالحكم النهائى اكتشفنا أن عدداً من هؤلاء الطلاب كانوا من أوائل الخريجين فى الكليات التى انتقلوا إليها، وأن أربعة منهم تم تعيينهم معيدين بالفعل، ولكننا اكتشفنا أيضاً أن جزءاً مهماً من أركان الحكم القضائى تم التغاضى عنه تماماً وتعطيل تنفيذه، فقد طالب الحكم باتخاذ الإجراءات القانونية مع رئيس جامعة دمنهور وعميد طب أسنان دمنهور - خلال عام 2015 - ورغم مرور 6 سنوات وعدة شهور، لم نسمع أن أحداً منهما قد تعرض لأى عقاب أو مساءلة، ولعلهما انتقلا الآن، بعد وصولهما إلى سن التقاعد، إلى أماكن أخرى بالجامعات الخاصة، أو الدولية، ليواصلا تدريب طلبة كليات المجموعة الطبية على الجاموس والأبقار والماعز بدلاً من البشر، دون أدنى اعتبار لصحة شعب سيتحول إلى فريسة لخريجين آخرين دخلوا هذه الكليات بأموال ذويهم، ولن يعترضوا أبداً إذا اكتشفوا أنهم لم يتعلموا شيئاً من الأساس وأنهم سيكونون إن عاجلاً أو آجلاً أشد الأمراض فتكاً بصحة المصريين!