أفغانستان على حافة الانزلاق الدامى

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

فى أفغانستان التى لا يبدو أحد مهتماً كثيراً بمتابعة أخبارها وما يجرى فيها، فمنذ مشهد الخروج الأمريكى وما جرى من أحداث مروعة بمطار كابول الدولى، شد أنظار العالم لأسابيع، بدا وكأن هناك اتفاقاً ضمنياً ما بألا يتتبع أحد ما يجرى هناك، خاصة بعدما وقع تفجير المطار الذى أودى بحياة المئات.

والشاهد على ذلك أن ما وقع بشمال أفغانستان مثلاً، ما بين قوات «طالبان» وتحالف الشمال بقيادة مسعود الابن، لم يفصح عن الكثير مما جرى ولا توجد تفصيلات حول كيف جاء بتلك السرعة، التى أوقعت «وادى بنجشير» وما حوله فى قبضة «طالبان»، وهو حدث فارق بالنظر إلى الرهان على أن التحالف المضاد لسلطة واستيلاء «طالبان» على الحكم، لن يسمح بمروره عبر جنبات الوادى بسهولة، وظل مرشحاً لأن يتمكن من صياغة معادلات توافق جديدة، سرعان ما ذهبت جميعها أدراج رياح لم يشعر أو يهتم بها أحد!

لكن ما ذهبت الظنون بشأنه ولم تكذبه الأحداث، أن صراعاً دموياً سيأخذ أفغانستان فى دروب ومنحنيات عدة قبل أن يستقر النظام الطالبانى، إذا قدر له الاستقرار.

فأقرب أعداء حركة «طالبان» هو الفرع الداعشى «ولاية خراسان»، العدو الشرس، قادر على خلط الأوراق بشدة تمرسه فى الحياة داخل طيات مراحل الانتقال وعدم الاستقرار، وله من خبرات المناورة وتجديد القدرة الذاتية ما يؤهله لخوض حرب استنزاف طويلة، قد تسحب أفغانستان برمتها إلى مجهول غير محدد الملامح.

الأحدث فى ذلك تمثل فى العملية الأخيرة التى تبنتها «ولاية خراسان»، فى هجوم ليس الأول من نوعه على المساجد وإن كان أعنفها منذ رحيل القوات الأمريكية، شهده مسجد «سعيد آباد» بولاية «قندوز»، الواقعة بالمنطقة الشمالية لأفغانستان.

المسجد تابع للطائفة الشيعية التى تمثل أقلية عددية لكنها حاضرة كرقم تاريخى فى المكون الأفغانى، نفذ الهجوم انتحارى تابع للولاية الداعشية استغل توقيت صلاة الجمعة ليضمن إيقاع أكبر قدر من الضحايا، وبالفعل سقط وفق الإعلان المبدئى عن الحادث 50 قتيلاً على الأقل وأصيب ما يتجاوز 100 شخص جرَّاء التفجير، هذه أرقام يتوقع أنها زادت خلال الأيام التى تلت وقت وقوعها لكنها وكما هو معتاد لم ولن يهتم أحد بمتابعتها.

وفق تقرير مراقبة للأمم المتحدة، اعتبرت عملية الهجوم الأخير «الثالثة» خلال أسبوع واحد ويشار إلى نقطة إضافية لافتة، أن جميعها استهدفت منشآت دينية، وهو نمط تكرر خلال الأسابيع السابقة وليس قاصراً على الأسبوع الأخير وحده.

وتشاركت العمليات فى نهج متطور من العنف لم يكن معتاداً أثناء وجود القوات الأمريكية، وهذا يشير إلى أن الفرع الداعشى يستغل هذه الفترة التى لم تتمكن «طالبان» فيها من تأسيس جهاز أمنى واستخباراتى قادر على مجابهة هذا النوع من النشاط الدامى.

فقد ظلت القوات الأمريكية هى التى تقوم بالجهد الأكبر فى هذا المجال خلال السنوات الماضية، وكانت فاعلة بتقنياتها التكنولوجية وقدرات الاستخبارات فى تضييق مساحات تمدد الفرع الداعشى، رغم محاولاته الحثيثة طوال الوقت فى اكتساب الأرض التى تمكنه من مزاحمة «طالبان» على سطوة العمل المسلح. ربما الخروج الأمريكى المتعجل تسبب فى جانب منه فى سقوط حائط الصد أمام النشاط الداعشى، وفى جانب آخر فتح شهية التنظيم للتقدم واستغلال حالة الفراغ للبدء بتنفيذ بنك الأهداف الخاصة به، وهو ما يفسر هذه الهجمات التى لم تستثن أحداً وكشفت بالفعل عن قدرات كامنة للتنظيم كانت تنتظر تهيؤ الساحة كى تحصد ما تراه يحقق أهدافها.

فى حال النظر للمكون الشيعى الذى استهدف هذه المرة، وظل منذ بداية ظهور «داعش» فى أفغانستان أحد الأهداف الرئيسية المتكررة للهجمات، نجده لا يمثل تفرداً بعينه رغم ما ارتكب تاريخياً بحق هذه الأقلية فى «قندوز» وغيرها من المدن والولايات الأفغانية.

على المستوى الجغرافى قد تكون إعادة استهدافها من قبل «داعش» تحمل مساراً جديداً، باعتبار هذه الولاية الشمالية التى تقع على الحدود من طاجيكستان لها ملمح استراتيجى مهم من الناحية العسكرية والاقتصادية، حيث تتقاطع عندها أهم الطرق التجارية باعتبارها بوابة «وصل» ما بين جنوب آسيا وآسيا الوسطى.

ولهذا السبب التجارى تاريخياً ظلت هذه الولاية تتمتع بنوع استثنائى من التنوع الديموجرافى، فهى تضم عدة قوميات يعيشون جنباً إلى جنب من أجل إدارة مصالح التجارة، يمثل الهزارة الشيعة نسبة 7% تقريباً إلى جانب البشتون والأوزبك والطاجيك والتركمان، وهو خليط قلما يتجمع على هذا النحو فى ولايات أفغانية أخرى.

الجدير بالذكر أن البشتون الممثلين للأغلبية والتى ينحدر منهم حركة «طالبان»، مارسوا هم الآخرون سلوكاً عدائياً واسعاً ضد الشيعة الهزارة طوال فترة حكمهم التى سبقت 2001، وهذا الموروث تكرر بتصرفات فردية بعد عودتهم 2021، حيث وقع ما لا يقل عن 15 ضحية من الجنود الهزارة المستسلمين لقوات «طالبان» من ذوى الانتماء الشيعى.

فى الوقت الذى تحاول فيه الحركة تقديم نفسها للداخل الأفغانى وللمجتمع الدولى بأن هذه الممارسات تخص حقبة الماضى الممنهج، إنما اليوم هناك قدر ملحوظ من العناية تبذله «طالبان»، من أجل محو هذه الصورة ومنع انزلاق المشهد الطائفى.

على جانب موازٍ آخر هناك عدد لا يستهان به من العمليات التى نفذها مفجرون انتحاريون فى المساجد والنوادى الرياضية والمدارس، وفى غالبيتها كانت تستهدف حركة «طالبان» مباشرة، إما بحق عناصرها أو بغرض هز سمعتها فى القدرة على تحقيق الاستقرار.

أشهر هذه الهجمات نفذها التنظيم بداية شهر أكتوبر الجارى خلال صلاة جنازة والدة المتحدث باسم طالبان «ذبيح الله مجاهد»، حضرها عدد من كبار قادة «طالبان» فى كابول العاصمة، وقد أسقط عدداً أقل من الهجوم الأخير بالطبع لكن تظل رمزية الهدف تحمل دلالة رئيسية.

فى المحصلة تظل «داعش» المهدد الرئيسى لسمعة «طالبان» فى ساحة مجابهة تحدى الأمن والاستقرار، حيث تستهدف الأخيرة وقف هذا النمط من الحروب الجانبية غير التقليدية وتقويض مستوى العنف فى البلاد.