الجزائر وفرنسا.. التاريخ عقدة الحاضر

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

أقل وصف يمكن أن توصف به الآن العلاقات الجزائرية الفرنسية أنها معقدة وبها الكثير من عوامل الفتور والتوتر والأزمة.

تجليات الأزمة عديدة؛ تصريحات للرئيس ماكرون حول حقيقة وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسى، يتبعها استدعاء السفير الجزائرى للتشاور وقرار بحظر الطيران العسكرى الفرنسى فى الأجواء الجزائرية.

لقاء للرئيس الفرنسى مع مجموعة من الجزائريين المقيمين فى فرنسا أحفاد «الحراكيين» الذين تعاونوا مع الاحتلال الفرنسى وممثلين للجزائريين الحاملين للجنسية الفرنسية قيل إنه بغرض فك ألغاز «مصالحة الذاكرة» بين فرنسا والجزائر، يشهد تفسيراً للرئيس ماكرون حول قيود تحيط بالرئيس تبون تعوق السير فى ملف تلك المصالحة، والتى يعول عليها الرئيس ماكرون كجزء من قناعاته بشأن تفكيك الألغام التى يراها تعوق تطوير العلاقات مع الجزائر، وإذا برد فعل جزائرى رسمى وشعبى غاضب جداً، يرفض تلك التصريحات وما فيها من دلالات ومعانٍ.

أزمات أخرى تتعلق بخلافات حول رفض استقبال الجزائر، لجزائريين يصل عددهم إلى ثمانية آلاف شخص، تعتبرهم فرنسا قيد الترحيل باعتبارهم مقيمين غير قانونيين ولكنهم بلا وثائق سفر، وترفض القنصلية الجزائرية فى باريس منحهم تلك الوثائق، وتطلب فحص كل حالة أولاً قبل السماح لهم بدخول الجزائر، وهو ما ترد عليه باريس بخفض التأشيرات الممنوحة للجزائريين، لا سيما من ذوى الصلة بالحكومة، حسب تصريحات الرئيس ماكرون.

فى هذا السياق ثمة حالة غضب جزائرية كبرى تظهر فى الإعلام وفى البيانات الرسمية للمؤسسات وفى تغريدات جزائريين عاديين وناشطين، تترسخ فيها حالة اقتناع عام بأن البلاد مستهدفة بقوة، وما يجرى مع فرنسا لا ينفصل عن حالة قطع العلاقات مع الجارة المغرب، وأنه ضغط على البلاد لتغيير مواقفها القومية المتعلقة بالقضية الفلسطينية ومقاومة التمدد الإسرائيلى فى المنطقة. وهو ما أشار إليه صراحة بيان لرئيس الأركان الجزائرى سعيد شنقريحة، معتبراً أن كل هذه الضغوط سوف تنكسر على صخرة الجزائر القوية ذات السيادة.

فى الوقت ذاته، تنادى قوى سياسية وأحزاب بأن تعيد الجزائر صياغة سياستها الخارجية على نحو قد يصل إلى حد قطع العلاقات مع فرنسا، أو وضعها فى أضيق إطار ممكن، والمنادون بهذا الرأى يستندون إلى الضربات التى وُجهت إلى فرنسا مؤخراً من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وأظهرت مدى ضعفها دولياً، إضافة إلى انسحابها التدريجى من مواجهة الإرهاب فى منطقة الساحل والصحراء، فضلاً عن تراجع الاستثمارات الفرنسية فى العديد من القطاعات الاقتصادية الحيوية كالطاقة المتجددة والمياه، مقابل زيادة كبيرة للاستثمارات التركية، التى تجاوزت خمسة مليارات دولار فى السنوات القليلة الماضية، دون أى شروط سياسية، على حد وصف الرئيس تبون، فى حوار له مع جريدة لوبوان الفرنسية مايو الماضى.

الشعور الجارف بالاستهداف، وإن طرح على السطح مدى تباعد الرؤى بين قيادتى البلدين تجاه قضايا جارية يمكن حلها بشكل أو بآخر، فإن التباين الحاد حول الذاكرة التاريخية يظل له الدور الأكبر فى تعميق حالة التباعد. والأمر هنا يتعلق بكيفية كتابة تاريخ الجزائر قبل الاستعمار الفرنسى 1832 وبعده وصولاً إلى الاستقلال.

والسائد أن كتابة التاريخ للأزمنة ذات التطورات المعقدة والشائكة والمرتبطة بالهوية الوطنية، عادة ما تكون خاضعة لتفسيرات عدة من الأطراف المباشرين لتلك الوقائع التاريخية.

وبينما يتفق الجزائريون على أن تاريخهم مع الاستعمار الفرنسى هو تاريخ نضال وطنى مشروع من أجل الحرية والاستقلال، ودفعوا ثمناً باهظاً تمثل فى قرابة ستة ملايين شهيد، ومعاناة جماعية هائلة نتيجة سياسات النهب والتعذيب والسجن لملايين آخرين، وفرض الخيانة على مجموعات من الجزائريين خدمةً للاحتلال.

وفى السياق ذاته تبرز المطالبة بضرورة الاعتراف الفرنسى الصريح بتلك المسئولية التاريخية والإنسانية كقوة احتلال استيطانى استهدفت هوية المجتمع وحقوقه الإنسانية، مع ما يترتب على ذلك من تعويضات على الأقل معنوية للجزائريين ككل.

فرنسا الرسمية، كما يعبر عنها الرئيس ماكرون، ترنو إلى إغلاق هذا الملف الشائك من خلال بعض التحركات الرمزية، لا تخلو من اعتذار عام، وكتابة تاريخ تلك المرحلة على نحو لا يتضمن بالضرورة تحميل فرنسا كافة أبعاد المسئولية التاريخية عن المظالم الهائلة التى تعرض لها الجزائريون على مدى 132 عاماً.

والسؤال الأبرز هو من يتحمل هذه المهمة، وهل تتضمن كل الحقائق بتفاصيلها المحزنة، وهل سيشارك الجزائريون فى هذه المهمة الثقافية الفكرية التاريخية، وعلى أى نحو ينظم ذلك؟ خاصة المدى الذى تقبل به فرنسا فى الكشف عن كل الوثائق لتلك الفترة المعقدة.

الرؤية الفرنسية لا تخلو من مثالب سياسية وعلمية. ففى لقاء الرئيس ماكرون مع ممثلى الجزائريين، طرح قضية إشكالية كبرى، تتعلق بمدى وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسى للجزائر، أى فى الفترة التى كانت فيها الجزائر تحت السيادة العثمانية، ومشيراً فى الآن نفسه إلى تعجبه الشديد من قدرة تركيا على كتابة تاريخ هذه الفترة بما يخالف الحقيقة من وجهة نظره، وداعياً إلى بذل جهد لكتابة تاريخ تلك المرحلة باللغة العربية والأمازيغية لتصحيح ما أعتبره أخطاء كبرى راسخة.

تلك التصريحات التى وصفتها «لوموند» بأنها كانت معدة جيداً ومن المستهدف تمريرها عبر الإعلام، تثير بالفعل إشكاليات فكرية وثقافية عديدة حول معنى الأمة ودور الاحتلال العثمانى، الذى يصفه البعض فى الجزائر بأنه وجود ذو صبغة إسلامية وليست صبغة قومية تركية، وجاء بناء على طلب الجزائريين أنفسهم لصد الهجمات العدوانية الإسبانية والإيطالية التى زادت على حدها فى الفترة التالية لسقوط الدولة الإسلامية فى الأندلس نهاية القرن الخامس عشر.

لكن هناك أيضاً من يُقر بأن فترة العثمانيين التى دامت 316 عاماً من 1514 إلى 1830م، هى احتلال مهما وصُف بأنه جاء بطلب محلى.

ويظل أخيراً أن كتابة التاريخ هى مهمة المؤرخين المحترفين والمنصفين للحقائق، وليس مهمة السياسيين الذين قد تعصف بهم الأهواء والمصالح.