مُحرر «البيض».. وإهانة مهنة الصحافة
كلما تناقلت مواقع التواصل الاجتماعى مشهداً صادماً وموجعاً، مثل فيديو انتحار فتاة من الطابق السادس بـ«سيتى ستارز»، سارع آلاف المواطنين إلى إدانة الذين نشروا الفيديوهات، ثم سارعوا إلى توجيه أقسى الشتائم لمواقع الصحف الإلكترونية التى لا تترك كبيرة ولا صغيرة، فى أى حادث من هذا النوع، إلا وتقوم بكشفها.
ومؤخراً قرأت على صفحة «كاتبة» إدانة شديدة القسوة لموقع جريدة كبيرة، لأنه نشر فحوى تقرير الطب الشرعى عن الفتاة المنتحرة، حيث انتهى التقرير إلى أنها كانت عذراء ولا تتعاطى أية مخدرات.
وقد رأت الكاتبة أن موقع الجريدة تجاوز كل الخطوط الحمراء، وارتكب جريمة لا تُغتفر بهذا التطفل غير الأخلاقى على خصوصية فتاة أصبحت بين يدى خالقها، ووصفت الكاتبة الموقع وكل المسئولين عنه بالانحطاط المهنى والأخلاقى و«البحث بكل السبل الخسيسة عن تحقيق أكبر قراءة دون أدنى اعتبار لمشاعر أهل الفتاة».
والحقيقة أننى توقفت طويلاً عند هذه الاتهامات القاسية، باعتبارها نموذجاً لمأزق طارئ تعيشه الصحافة الإلكترونية تحديداً، ويصعب فيه إلى حد كبير رؤية الخيط الأحمر الرفيع الذى يفصل بين واجب الصحافة فى نشر الحوادث وكشف أدق ملابساتها وأبعادها، وبين صيانة الحق فى الخصوصية وعدم انتهاكها.
إن المواقع الإلكترونية للصحف لا يمكنها أن تستمر فى الوجود إلا بتحقيق نسب مشاهدات ضخمة، وهذا المأزق فرض على كثيرين من العاملين فيها ضخ أكبر عدد من الأخبار والفيديوهات للحفاظ على نسب المشاهدة، كما أن الطبيعة الإلكترونية لهذه المواقع تختلف جذرياً عن طبيعة الصحف الورقية، فلم يعد بإمكان إدارة أى موقع انتظار اكتمال كل التحقيقات فى قضية محددة حتى يتم نشرها، فعنصر الزمن هنا أصبح هو الحاكم والحاسم، والثانية الواحدة فى توقيت النشر تلعب دوراً فارقاً، ولهذا تفشت فى المواقع ظاهرة النشر المبتسر لأى قضية، ومن يريد -من القراء- أن يعرف أبعاد أية قضية، أصبح مطالباً بأن يقرأ أكثر من 40 خبراً كل منها يحمل تفصيلة جديدة قد تكون أساسية أو ثانوية أو تافهة!
وإذا كانت الصحف المطبوعة تُراعى دائماً دقة الصياغة وسلامة العبارة والابتعاد عن التكرار والغموض والركاكة، فإن المواقع الإلكترونية لا تملك هذا الترف، فليس هناك وقت لتدقيق أى شىء، لأن سيف الوقت على رقاب الجميع، ولم يعد مهماً -فى معظم الأحوال- أن تكون المعلومة الجديدة مهمة، أو مكتوبة بشكل صحيح، ولكن المهم هو سرعة النشر حتى لا يترك القارئ العَجول هذا الموقع ويذهب إلى مكان آخر يلبى فضوله ولهفته بشكل أسرع.
لقد داهم التطور الرهيب فى تكنولوجيا المعلومات، مهنة الصحافة فى العالم كله، وكلما حاولت الصحافة توفيق أوضاعها مع مرحلة من هذا التطور، قفزت التكنولوجيا قفزة أخرى مهولة، ومنذ الوقت الذى أصبحت فيه الأخبار والفيديوهات متاحة وبكثافة لكل من يحمل «موبايل» حديثاً، بات الصراع من أجل البقاء فى عالم الصحافة أكثر شراسة، ومع ولادة منصات وشبكات جديدة، ومع تحول كل مواطن له حساب على موقع فيس بوك، أو غيره من المواقع، إلى مضخة إصدار أحكام وكتابات وصور وفيديوهات، بات الأمر أكثر تعقيداً، لأن «صميم» عمل الصحفى أو الإعلامى لم يعد حكراً عليه، وإنما أصبح مشاعاً بين مليارات البشر الذين فاقت «إسهاماتهم الإعلامية» فى الفضاء الإلكترونى، مئات أضعاف كل ما تبثه شبكات الصحافة والإعلام المحترفة فى العالم كله.
الأمر إذن شديد التعقيد، ولا يمكن بأى حال استسهال الحل فى هذا المحيط الفوّار برمال دائبة الحركة، وأتصور أنه لن يكون متاحاً فى القريب العاجل وضع تصور مقبول لإنقاذ مهنة الصحافة والإعلام من مأزقها الحالى على صعيد الصناعة!.
أما على صعيد أخلاقيات المهنة، فإن الأمر أكثر تعقيداً، وإذا أخذنا فاجعة انتحار فتاة فى «سيتى ستارز» كنموذج، فإن ما اعتبرته «الكاتبة» انحطاطاً أخلاقياً ارتكبه أحد المواقع الإلكترونية، هو فى الحقيقة من أوجب واجبات مهنة الصحافة، ولو تخيلتُ نفسى فى موقع الأب المكلوم بانتحار ابنته، لأثلج تقرير الطب الشرعى قلبى، لأننا فى مجتمع له تاريخ حافل فى قتل فتيات فقدن عذريتهن، أو انتحار فتيات تعرضن للخديعة وتخلصن من حياتهن تحت وطأة الخوف من المجتمع، والأهم من ذلك أننا أمام تقرير رسمى أعلنته جهة تعرف جيداً أهمية مثل هذه التفاصيل فى تكييف القضية، أو كشف أبعاد غامضة فيها، قد تكون شديدة الأهمية فى القصاص من الذين دفعوا بها إلى هذا المصير الموجع.
إن تقرير الطب الشرعى ليس إجراء شكلياً ولا مجرد فضول ينتهك الخصوصية، ونشر أدق تفاصيل الأحداث أو الجرائم التى تهز وجدان الناس، لا يهدف إطلاقاً إلى تسلية القراء بفضائح من هنا أو هناك، ومع ذلك تظل هناك تجاوزات مقززة، وتصرفات يندى لها الجبين، ترتكبها بعض المواقع لتحقيق مشاهدات وقراءات عالية، وهناك تفاهات لا حصر لها تتنافس المواقع فى تكرارها يومياً، وهناك سرعة مفرطة فى النشر لم يعد وارداً فيها على الإطلاق الاهتمام بدقة الصياغة أو سلامة الجملة أو صحة المعلومات، وإلى الآن لم يتوقف أساتذة وخبراء الإعلام أمام كارثة اعتياد القراء لسنوات طويلة على قراءة مثل هذه التفاهات، أو اعتيادهم على الأسلوب الردىء والركيك الذى يسود الآن غالبية ما تنشره هذه المواقع، والمؤكد أن ضحالة مستوى الكتابة على المواقع سيكون لها أثر كارثى على حاضر ومستقبل لغة الأجيال الحالية واللاحقة.
والأمر لا يتعلق فقط بضحالة مستوى الكتابة، ولكن الكارثة طالت «المعلومات»، فهناك محرر فى موقع صحيفة قومية كبرى ينشر كل يومين تقريباً خبراً عن خطورة تناول 3 بيضات فى الأسبوع، ومحرر آخر ينشر كل يومين أيضاً نفس الخبر عن خطورة استخدام الألومنيوم فى طهى الطعام، ويوماً بعد يوم يمعن كل منهما فى مزيد من إثارة الرعب، فمحرر «البيض» انتقل مؤخراً من التحذير من سُمِّية البيض إلى التأكيد أن أكل 3 بيضات فى الأسبوع يؤدى إلى الموت المفاجئ، ومحرر الألومنيوم انتقل من تهديد الناس بالتسمم، إلى تبشيرهم بالسرطان!.
والمثير فى الأمر أن تعليقات القراء على مثل هذه الأخبار لا تخرج أبداً عن توجيه أقزع الشتائم لمحررها وللموقع وللجريدة وللقائمين عليهما.. وقد انتظرت أن ينتبه أحد السادة المسئولين عن هذه المواقع إلى هذا التدليس، ويأمر بإيقافه وإحالة محرر البيض وزميله محرر الألومنيوم إلى التحقيق، ولكن انتظارى طال دون جدوى.. حتى أيقنت أن المشكلة ليست فقط فى محرر صغير، ولكنها فى بعض كبار المسئولين عن هذه المواقع، الذين لا يشغلهم غير «الترافيك»، حتى لو جاء على حساب المهنة كاملة!.