مسار التنمية البشرية ومسيرتها
ما يهم ليس الإشادة بقدر الإنجاز على أرض الواقع. تقرير التنمية البشرية 2021 فريد من نوعه، ليس للإشادة التى رأى برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ومؤلف التقرير الرئيسى الدكتور خالد زكريا أن أداء مصر يستحقها، ولكن لأن غالبية ما يتطرق إليه التقرير من علامات وأمارات ودلائل التنمية يراها ويشعر بها المواطن العادى.
فلو اجتمعت كوكبة من خبراء الاقتصاد والتنمية لتتحدث لمدة يومين عن التحسن الطارئ فى مؤشرات الاقتصاد الكلى، لن تلتفت القاعدة العريضة من المصريين للمحتوى مهما كان قيّماً ومفصّلاً. لكن أن تحدثهم عن «حياة كريمة» حقّقت سكناً كريماً لملايين المواطنين، فهذا كلام مفهوم ومهضوم لأنه ملموس ومعايش. وأن تحدّثهم عن علاج فيروس سى الذى تحول من ضيف زائر إلى صاحب بيت مقيم على مدار عشرات السنين فى مصر، فهذا كلام معقول ومحسوس، لأن فى كل بيت مصرى تقريباً مريضاً تم تشخيصه وعلاجه.
علاج جزء كبير من مشكلات مصر يكمن فى هذا التقرير. والمقصود ليس فقط توثيق وتحليل لـ«مسيرة» مصر فى تنمية رأسمالها البشرى والمتمثلة فى مجالات التعليم والصحة والسكن اللائق، ولكن على القدر نفسه من الأهمية أن يشعر المواطن العادى بأن تغييراً إيجابياً ما طرأ على حياته وحياة أبنائه. وكانت ضمن أكبر معضلات عصر الرئيس السابق الراحل مبارك أن القفزات الاقتصادية الكبيرة التى تحقّقت ظلت بعيدة عن المواطن العادى، لا يشعر بها فى حياته اليومية أو يستفيد من آثارها بشكل مباشر تجعله راضياً بشكل ما عن أداء النظام.
المواطن العادى ليس آدم سميث أو طلعت حرب. المواطن العادى ليس جهبذاً من جهابذة الاقتصاد. كما أنه ليس طبيباً متخصّصاً أو عالماً متفرّداً أو مهندساً متميزاً، لكنه خبير مثمن لتفاصيل حياته الصغيرة قبل الكبيرة.
لهذا تكمن أهمية التقرير فى أن جانباً غير قليل مما ورد فيه واقع معايش من قبل المواطن العادى.
هذه المرة، لم ينظر المواطن العادى إلى التقرير ومحتواه وتحليلاته وتوصياته باعتبارها تقريراً أممياً آخر لا شأن للقمة العيش اليومية به. وبصراحة شديدة، لن يتوقف سائق الميكروباص وبائعة الجرجير وفرد الأمن وعامل البناء كثيراً عند الإشادات الدولية بأداء مصر فى «مسار» الاستثمار فى البشر. لكنهم سيتوقفون عند الآثار الفعلية التى انعكست عليهم بفعل المسيرة والمسار والحق فى التنمية.
«التنمية حق للجميع: مصر المسيرة والمسار» عنوان شيق لتقرير، لكنها من المرات القليلة التى يكون فيها العنوان انعكاساً للواقع.
الواقع يخبرنا بأن الكلام شديد التخصص والإشادات والمجاملات السياسية والبروتوكولية لا تعرف طريقها إلى قلب المواطن أو معدته. لكن أرض الواقع تعرف طريقها دون تردّد.
مرة أخرى، هذا تقرير فريد. والجانب الآخر من تفرّده يكمن فى «بدء» تفعيل مطلبين تاريخيين طالما داعبا مخيلة المصريين. الأول تاريخى بمعنى الكلمة وهو التطرّق إلى ملفى التعليم والصحة. والثانى والذى تردّد فى السنوات السبع الماضية ألا وهو الاستثمار فى البشر كما فعلنا مع الحجر. يبقى «المسار» طويلاً، لكن المسيرة بدأت. وبينما نمضى نجرّب طريقاً ونطرق باباً، نقيمهما، ثم نستمر فيهما أو نعدّل فيهما، وهذا أمر طبيعى، فالكمال لله.
كلمة أخيرة أو بالأحرى كلمتان أخيرتان. القنبلة السكانية، وأضيف إليها نعت المتفجرة والمفخخة. مضخة العيال دون هوادة قادرة على ابتلاع أى تقدم أو أى إنجاز. هذه المضخة يجب أن يتم السيطرة عليها، بذراع التوعية وعقاب من يروج لحرمانية التنظيم، وذراع المقابل، حيث من يود أن يضخ أربعة أو خمسة أو ستة عيال، عليه أن يشيل شيلته، لا أن يشيلها عنه دافع الضرائب من أبناء الطبقة المتوسطة.